العنوان اقتباس للخليل بن أحمد، وفيه إشارة إلى عبارة «أدركته حرفة الأدب»، التي سارت مسير المثل، لتُقال في كلّ أديب يناله بؤسٌ، وعند كلّ حالةٍ يُمنى فيها بالخيبة والإخفاق. فالأديب إنسانٌ له حاسّة سادسة تُضاف إلى حواسّه الخمس، وهي طبيعته الفنيّة التي تستعمل الحواس الأخرى في إدراكها بنواحي الحياة، بصورةٍ ينفرد بها الأديب، كما ينفرد ببيانٍ لا يتأتّى لغيره من سائر الناس. وهو بهذا مشغولٌ مُستهلكٌ جُلّ قواه، مصروفٌ عن مُقوّمات حياته وضرورات عيشه. فإذا مسّهُ ضُرّ، عُدّ أدبه شؤماً عليه، وقيل: أدركته حرفة الأدب. على أن الأدب لم يكن دائماً قريناً للبؤس والحرمان، وليس كلّ أديبٍ كقول الشاعر: ما ازددتُ في أدبي حرفاً أُسرّ بهِ إلا تزيّدتُ حرفاً تحته شوم إن المُقدّم في حذقٍ بصنعتهِ أنّى توجّه منها فهو محروم أو قول الثعالبي في كتابه «المبهج»: «حِرفة الأدب حُرفة، والحُرفة بالضمّ تعني قِلّة الحظّ». وقِصّة شاعر لبنان الشهير خليل مُطران، حين علِم والده بأن ابنه يكتب الشّعر، فقال له قوله الشهير: «ابحث لك عن حرفة تتكسّب منها، فما وجدنا شاعراً على ظهره قميص»! ولعلّ أكثر الأدباء مثالاً لقلّة الحظّ فيما يتوجّه إليه، وعلى استهداف الدهر له بالخطوب، هو أبو حيّان التوحيدي، الذي كانت حياته نموذجاً لا نظير له على من أدركته حرفة الأدب، حتى انتهى به الأمر إلى أن يُحرق كُتبه بيديه. قال ربيع في كتابه «العمدة»: «رحم الله زماناً كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر، أتت القبائل فهنّأتها، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، وتباشر الرجال والولدان. وكان العرب لا يُهنّئون إلا بغُلامٍ يولد، أو شاعرٍ ينبغ فيهم، أو فرَسٍ تُنتج». على أن بعض الأدباء والفلاسفة عانوا في حياتهم، ولم ينتبه الناس إلى قيمتهم إلا بعدما شاخوا، كالكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو، الذي مُنح جائزة نوبل، فرفضها قائلاً: «إن هذا المال كالعوّامة التي أُلقيَتْ إلى السابح، بعد وصوله إلى برّ النجاة»! أو الفيلسوف الألماني شوبنهور، الذي فاجأته الشُهرة والتقدير وهو يقترب من السبعين، فقال ساخراً: «بعد أن عشتُ حياتي وحيداً منسيّاً، جاءوا فجأة يزفّونني إلى قبري بالطبول»! وكان الشاعر المصري محمود غنيم يُمازح صديقاً له سُرقت محفظته، بقوله: هوّن عليك وجفّف دمعك الغالي لا يجمع الله بين الشّعر والمالِ! وحتى الأستاذ توفيق الحكيم كتب في «برج العاج»: «ولكننا أدباء العناكب، ننسج في الظلام، ونعيش في الجدب والحرمان». يُقال إن: «المُعاناة تولّد الإبداع»، ولكن إذا كان الواقع قد جعل نفراً من المُبدعين رهائن لمُعاناتهم، فهل يجوز تعميم الاستثناء الذي صنع تلك القاعدة؟ الجواب بالطبع: لا، فهناك الكثير من المُبدعين الذين تجاوزوا تلك المقولة، التي يحاول البعض اليوم جعلها رداءً يتدثّرون به لإخفاء عجزهم عن الاندماج في الحياة. وفي العصر الحاضر نماذج تُثبت أن لكلّ مُجتهد نصيب، حتى في حرفة الأدب. فالكاتبة الإنجليزية ج. ك. رولينج، مؤلّفة سلسلة «هاري بوتر»، تُصنّفها مجلة «فوربس» ضمن الشخصيات الأكثر ثراءً، حيث تُقدّر ثروتها بنحو مليار دولار. وكذلك الأميركي جيم ديفيس، الذي اشتهر بكتابة العرض الكوميدي الناجح «جارفيلد»، على شبكة تلفزيون CBS، الذي بلغت ثروته أكثر من نصف مليار دولار. هؤلاء وغيرهم من الكُتّاب والأدباء قد نجحوا حقّا في مُخالفة قاعدة «من أصابتهم حرفة الأدب» إلى الأبد!