يطالب بعض الكتَّاب وزارات الثقافة والإعلام أن تصرف معونةً للأدباء يتفرَّغون بها عن الانشغال بطلب الرزق، وتنصرف وجوههم بها إلى كتبهم وبحوثهم، بينما يرى آخرون أن الإبداع يُولد من رحم المعاناة والمكابدة، وأن كثيراً من المبدعين على مر الدهور كانوا مُعوزين، أدركتهم «حرفة الأدب»، فهم في ذروة الإبداع والبيان، وإن كانوا في قاع العوز والحرمان.. وحين تستعرض حال عباقرة الأدب وأساطينه، تجد أن منهم المعوزين المنبوذين، والأغنياء المترفين، وجولةٌ قصيرة في ذاكرتك تُغنيك عن التمثيل على ذلك. ومع ذلك دعنا نستدل على هذه الدعوى من قريب، ولن نسبر غور القرون الماضية، فالأمر أهون من ذلك.. ألا ترى أن من أدبائنا الكبار ثلة من أهل النفوذ والمناصب، ممن ترقّوا في سماء الأدب عاليًا، ونالوا فيه حظًا وافيًا، كالأمير عبد الله الفيصل، والدكتور غازي القصيبي، والدكتور عبد العزيز الخويطر -رحمهم الله- وغيرهم كثير، وإذا ذهبنا للقرن الماضي فسنجد أميرَ الشعراء أحمد شوقي -رحمه الله- الذي نشأ في بلاط الخديوي وعاش حياة الترف والقصور. ثم.. إذا كانت المعاناةُ حقاً الأمَّ الولود للإبداع، فمن ذا الذي يزعم أن المعاناة محصورة في قلة ذات اليد؟ أليس من صميم المعاناة: الغربة عن الأوطان، وفقد الأحبة، وظلم ذوي القربى، ونكبات الزمان؟ بل أليست الحياة الدنيا بأسرها دار كَبَدٍ ونصب وعناء؟ ألم يُنشد أميرُ الشعراء أحمد شوقي حين تغرَّب عن وطنه أبرع قصائده وألمع فرائده؟ ومنها قصيدته الأندلسية التي عارض بها نونية ابن زيدون: يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا ماذا تقصّ علينا غير أن يدًا قصّت جناحك جالت في حواشينا ليس كثيراً على الأدب والأدباء أن تمنحهم وزارة الثقافة والإعلام الاهتمام والتقدير عموماً، والدرهمَ والدينارَ خصوصًا! فالأدب مما تُشحذ به الهِمم، وترقى به الأمم، ولدينا في هذا الوطن الكريم نماذج رفيعة، شغلها عن التفرّغ لهذه المهمة طلب الرزق، والسعي على النفس والعيال.. فالأمل في وزارتنا أن تدرس هذا الاقتراح، وإذا رأت أن تُنفذه فليس بالخافي عليها أنه يفتقر لتحديد المعايير، حتى لا يشمّر كلُّ دعيٍّ متمثّلاً قول القائل: وما طلب المعيشة بالتمني ولكن ألقِ دلوكَ في الدلاءِ طرفة الوداع: قال الشاعر محمود غنيم مُعزّياً صديقه الشاعر الذي سُرقت محفظته: هوّن عليكَ وجَفّف دمعَك الغالي لا يجمع الله بين الشعر والمالِ ** **