التقيت بالشيخ صالح المغامسي مرتين، وكانتا عبوراً سريعاً كمر السحاب، الأولى في محطة قطار الرياض المتجه للأحساء الحبيبة، وتحدثنا فيها لدقائق معدودة، ثم في معرض الرياض الدولي للكتاب العام الفائت، وكان كما عُهد عنه، لطيف الجانب، حلو الحديث، يشع طيباً وخلقًا. قبل 8 أشهر تقريباً ظهرتُ في لقاء مصور على بودكاست ثمانية، عن تجديد الخطاب الديني، ثم بعد حلقتي استضاف أبو مالح الشيخ المغامسي عن الموضوع نفسه تقريباً، ثم قبل ليلتين شاهدته في لقاء متلفز مع الكابتن سامي الجابر يتحدث عن رجاء يعيش بين جنبيه في تأسيس مذهب جديد، يواكب الحاجة العصرية إليه. ومهما كان حجم الخلاف مع الشيخ في رجائه الذي رجاه، وأمله الذي أمّله، فإنه لا ينبغي لي ولا لغيري أن يحيل ذلك إلى خلاف مشحون بسوء الأدب وقلة المروءة واتهام النوايا، بل إنني أقدر للشيخ علمه وخلقه وأدبه، وهذه السطور مناقشة هادئة لفكرة طرحها وأعلم أنها جاءت مختصرة بسبب طبيعة الظهور الإعلامي، الذي يأخذه طابع العفوية والمباشرة وعدم التدقيق بخلاف المكتوب والمدون الذي يخضع للقراءة والتأمل والمراجعة، ومع حفظي لكامل التقدير للشيخ صالح فإنني سأسجل بعض الرؤى المختصرة هنا: أولاً: أعتقد أن ما دعا الشيخ صالح لفكرة إنشاء مذهب جديد هو أمران: أولهما: ما يراه في نفسه من القدرة على ذلك، ومن حق كل شخص أن يقدر ذاته خاصة إذا كان هذا التقدير نابعاً من معرفة بالنفس وبما تملكه من مهارات وأدوات وقدرات، وثانيهما: ما أشار إليه بشدة الحاجة في هذا العصر إلى مذهب جديد مختلف عن سوابقه من المذاهب يواكب العصر وضروراته وتغيراته، وأعتقد أن ما تعرض له المغامسي من ردود في بعض المسائل التي أثارها وكان كثير منها خارجاً عن حدود العدل والخلق جعلته يعتقد أن الإشكالية في المذاهب نفسها، وأن الخروج من هذا المأزق في التعامل مع المخالفين لا يكون إلا بابتكار مذهب جديد مرتضى وفق معايير يراها الشيخ ولا نعلم بها حتى الساعة. ثانياً: لا يخفى على الشيخ فيما أظن ولا على غيره من المطلعين ولو جزئياً في نشوء المذاهب الفقهية وحتى العقدية أنها لم تنشأ أبداً بإرادة مبيتة من أصحابها، ورجاء مسبق، وتخطيط منظم لها، بل في مجملها كانت بناء منهجياً تاريخياً شارك فيه إمام المذهب وتلاميذه من بعده في بناء تراكمي استخلص فيه المتأخرون القواعد والأسس التي بنى عليها إمام المذهب وأعمدته أقوالهم الفقهية، فصار مع الزمن لكل مذهب قواعده ومصطلحاته وترجيحاته التي لم يبتكرها الإمام وحده بل كانت صنيعة جهد مستمر من التلاميذ البارزين في كل مذهب والذين أحبوا إمامهم وانتسبوا له، وعليه فإنني أظن أن هذا الرجاء الذي نطق به الشيخ إنما هو من قبيل الأمنيات التي لا يؤمن بها، إذْ واقع الحال لا يستقيم مع هذا الرجاء. ثالثاً: المذاهب الفقهية التي نشأت بالتراكم المعرفي التاريخي كانت إلى ذلك استجابة اجتماعية لحركات المجتمعات وبيئاتها المختلفة، ولذلك يصح أن نقول مع علي النشار أن الفقه هو علم اجتماع المسلمين، والمنقول عن أئمة المذاهب عدم رغبتهم في إنشاء مذاهب تخصهم وأنها خرجت كاستجابة علمية واجتماعية، والنقول عنهم تؤكد ذلك، فمالك مثلاً يقول: "ما تعلَّمت العلم إلاَّ لنفسي، وما تعلَّمت ليحتاج النَّاس إليَّ"، والإمام أحمد المشهور عنه أنه كان يكره أن يكتب كلامه، ولكن الحراك العلمي والاجتماعي لا يسير مع الرغبات، بل المعروف عن أئمة المذاهب نهيهم ونكيرهم على من يقلدهم! فإذا كان الأمر كذلك فإن نشأة مذاهبهم لم تكن برغبة منهم بل استجابة تاريخية بسياقاتها المعرفية وملابساتها التي تكشفها كتب تاريخ الفقه والتراجم الحافلة في كتب طبقات الفقهاء. رابعاً: قلت ذات مرة إن فكرة نشوء المذاهب ومصطلح المذهب نفسه يشبه إلى حد كبير مصطلح (البردايم) (Paradigm) الذي صنعه توماس كون في بنية الثورات العلمية من نواح مختلفة لا يسع المقال هنا إلى تحليلها بما فيها مفهوم القطيعة إنه "تلك الإنجازات العلمية، والتي تقبل في زمن معين، وتشكل أساساً قوياً لطرح المشكلات العلمية ولطرائق حلها، وهو كذلك مجموعة القيم التي يشترك الباحثون في قبولها والتمسك بها"؛ ولذلك فإن نشوء أي مذهب معرفي هو نشاط علمي، والنشاط العلمي كما يقول بيكون لا يمكن أن يتطور إلا داخل براديم معتمد من طرف أعضاء مجموعة علمية، وهم يشتغلون في إطار من المجابهة العلمية العاقلة، وهو ما حصل في نشوء المذاهب الفكرية والعقدية والفقهية على وجه التقريب. خامساً: لو افترضنا جدلاً أن مذهباً فقيهاً نشأ على يد الشيخ صالح أو على يد أي شخص آخر هل سيكون هذا المذهب العصا السحرية التي ستحل الإشكالات الفقهية أو حتى تحد منها؟ ولسائل أن يقول أي شكل من أشكال المذاهب هذا المذهب الذي سيقنع أصحاب المذاهب على اختلاف أمصارهم وأفكارهم لاتباعه والقناعة به؟ وما القوة المعرفية الحجاجية التي يمتلكها لإقناع كل هؤلاء البشر؟ إذا كانت النبوة على علو منزلتها وجلال قدرها لم تحقق هذا الهدف النبيل! وهب أننا وصلنا لمذهب فقهي بمواصفات عصرية مقنعة، كيف سنفعل بالخلاف العقدي الذي هو أشد وأنكى من الخلاف الفقهي، إذ يقع غالباً على حدود الكفر والإيمان، إن الرغبة في مذهب يحل أو يحد من الاختلافات وتقبل الناس لها ليس رجاء بل حلم وطوبائية حتى وإن بدت جميلة ورائعة ولكن لا علاقة لها بالواقع، خاصة والقرآن الكريم يؤكد على فكرة الاختلاف بقوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم). سادساً: المذاهب الفقيهة المعتمدة والمندثرة قدمت تراثاً عظيماً لا يمكن إغفاله وقد أثنى عليه الشيخ صالح في لقائه في إذاعة ثمانية، ولكن ليس واحد من هذه المذاهب يمتلك الحق المطلق، بل الحق موزع في هذه المذاهب فمصيب ومخطئ، ونشوء مذهب جديد لن يستطيع الخروج بأي حال من الأحوال عما هو موجود في أصول وقواعد هذه المذاهب، فما لا تجده عند المالكية ستجده عن الأحناف، وهلم جرا، حتى المسألة التي أشار إليها عرضاً في حديثه (معارضة حديث الآحاد) للعقل، وأنه لا يمكن أن يفرط في عقله مقابل حديث الآحاد، فهذه المسألة معلوم للجميع أنها نوقشت قديماً في المذاهب في مسألة هل يفيد خبر الآحاد العلم؟ والاحتجاج به في مسائل العلم والعمل وغيرها، لذلك لا يمكن أن يخرج مذهب مستقل في أصوله عن أصول ما سبق إلا أن يكون مبنياً على لغة غير لغة العرب ونصوص غير نصوص الوحيين، فإن قال قائل فكيف الأمر في النوازل؟ قلنا النازلة تظل جديدة في حدثها لكن تأصيلها وحكمها سيستمد من أصول مقررة سلفاً في مذهب من هذه المذاهب أو في أكثر من مذهب وهكذا. أخيراً.. فإنني أدرك تماماً الإشكالات الموجودة حالياً في الخطاب الديني وما نتج عنها من تشدد وتطرف عند بعض الناس، والتي حاول الشيخ تلمس حلها بإنشاء مذهب جديد. وأختلف معه في فكرة الحل تماماً، وأعتقد أن الحاجة ماسة إلى تجديد الخطاب الديني خاصة في جوانب متعددة، منها التعامل مع الخلاف الفقهي والعقدي، وتكريس الجهود لجمع الناس على الأصول المحكمة للدين ومعاقد الإجماع فيها، وبسط جوانب التسامح في الخلاف في مسائل الاجتهاد ليس بالتنظير فحسب، بل بالتطبيق العملي الجاد والوقوف بحزم ضد كل خطاب متطرف يقصي ويهمش ويفسق ويبدع ويكفر ويتعدى على حرمات الناس. ولا زلت عند رأيي السابق بضرورة تدريس العلوم الاجتماعية (التربية/علم النفس/علم الاجتماع) وغيرها في الكليات والمعاهد الشرعية، وضبط حدود التغول الفقهي في الحياة العامة، وبيان حدود الإلزام بالشريعة، وما لا يلزم به منها، وحدود الإنكار وما لا ينكر فيه ومن ذلك مسائل الاختلاف التي يكون حظها البحث والنظر والاستدلال.