عقيدة المسلمين على مرّ العصور كانت ظاهرةً جليةً في توحيدها الله تعالى، وسهلة وواضحةً في عرضها وتقريرها أصول الاعتقاد، لأنها الحق الجلي والمطلب الرئيس للنجاة يوم القيامة، لذلك كانت أقرب إلى الفطرة وأوفق للعقل وأدعى للإيمان. هذه الأوصاف هي الأليق بالعقيدة التي يعتنقها الخلق، على اختلاف أعمارهم ومعارفهم ومشاربهم وأجناسهم، وأيُّ مؤمن يعتقد ذلك آمِنٌ في دينه ومقدسه. أما خروج النسق العقدي نحو تفاصيل علم الكلام وغموضه، أو مجادلة أهل الفرق والملل وخصومهم، فجعل علمَ العقيدة شأنَ الخواص من العلماء والفلاسفة، وألزم مقرري علم الاعتقاد عند الشرح والتصنيف أن يُدخلوا فيه من المسائل والقضايا التفصيلية ما يحوّل الوضوح العقدي إلى غموض كلامي ميتافيزيقي، وأنّ ما تحصل به النجاة من العقيدة يستلزم تقريرات لا تتنهي من المسائل التي دخلها الخلاف، مثل دقائق الصفات الإلهية وخلق القرآن ورؤية الله تعالى في الدنيا والتوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته والتبرك بآثاره والدجّال والمهدي وطاعة أولي الأمر وسيادة الشريعة في ظل الديموقراطيات المعاصرة... وغيرها من مسائل، ثم وصل الأمر إلى الاشتراط على العامي في بعض المذاهب إظهار معتقده في الفرق الكلامية وهو لم يشهد سجالها ولا يعرف كنهها، فيضطرب معتقده في تفاصيل قد تؤثر في إيمانه واطمئنانه. ولذلك، بات تناول العقيدة وفق تقرير علمائها المتأخرين يختلف عن تناولها وفق التقرير القرآني والبيان النبوي، المجسّدين لحقيقة التوحيد والتحذير من الشرك، وهذا الفرق الكبير في التناول جاء بسبب اتِّباع طريقة الخصوم في الدفاع عن حياض العقيدة، بتطويل طريق الوصول إلى عقيدة النجاة وتصعيبه، وليس تذليله وتيسيره. هذا الخلاف والشغب الكلامي على العقيدة، أديا إلى ازدياد علماء الاعتقاد وتسيُّدهم مجالات تخصصية عدة تتناول العقيدة وحمايتها ومدافعة الفرق المخالفة لها، ما أدى إلى حدوث مجال معرفي شامل يقرأ الشريعة وفق المنهج العقدي، ويناقش المستجدات بروح الجدل الكلامي، ويمنح المجادِل في العقيدة طوباوية ومثالية تمنحه الحق في تصنيف الخلق باعتبار مآلهم الأخروي وليس عملهم الدنيوي، فكانت النتيجة فتاوى توحيدية وفقه عقائدي أثمرا في مشهدنا الإسلامي الكثير من الإشكالات السلبية -من وجهة نظري-، وأهمها : أولاً: مناقشة الخلاف الفقهي على أساس معتقد قائليه، حتى لو كانت مسائل فقهية عملية، ما يجعل المخالف في إحدى دائرتين أمام خصمه: إما دخوله دائرة البدعة، أو دخوله دائرة الكفر، وظهر ذلك جلياً في مسائل الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في قضايا التكليف والجبر على الأفعال والمصالح العقلية وفق قاعدة التحسين والتقبيح... ولم ينته الأمر في الأجيال السالفة، بل انتقل في عصرنا الحاضر إلى مسائل عدة مثل: النصح لولاة الأمر هل هو في العلن أم في السر؟ وما يتعلق بمستجدات التحولات الديموقراطية في الوطن العربي، ما أدى إلى تفرق عقدي ورمي المخالف بالبدعة أو الكفر نتيجة ذلك الخلاف، الفقهي في أصله. كما يلاحَظ أن بعض الفقهاء إذا أراد إقصاء مخالفيه وتعظيم قوله، ربط خلافه وإياهم بالمجال العقدي، ليكون أدعى في ممارسة التحذير من مخالفيه وتسويغ اتهامهم، وبالتالي تهميش القول الآخر إلى قول مضاد لأهل السنة أو السلف. ثانيا: تَجذّر فكرة انقسام الدين إلى أصول وفروع عند الحكم على المخالف، فهذا من أسباب إشكالية التداخل بين الفقهي والعقدي، والظني والقطعي، والسعة والضيق، فبعض الفقهاء والمتكلمين جعل العقيدة أصولاً كلها، والفقه فروعاً كله، وهذا التقسيم من حيث الأصل سائغ ومقبول إلى حدٍّ ما، أما من حيث البناء عليه تأثيماً وتكفيراً لمن خالف في مسائل العقيدة، أياً كانت درجتها، فهو من الأخطاء التي حذّر منها بعض السلف، ومن أشهر مَن أظهر موقفه في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد قال في نص نفيس: «فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، وهذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسّموا المسائل إلى مسائل أصول يكفَّر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفَّر بإنكارها. فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا الفرق ليس له أصل، لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرّق بين النوعين: ما حدُّ مسائل الأصول التي يكفَّر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فان قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا، وفي أن عثمان أفضل من علي أم علي أفضل، وفي كثير من معاني القرآن، وفي تصحيح بعض الأحاديث... هي من المسائل الاعتقادية والعملية، ولا كفر فيها بالاتفاق» (مجموع الفتاوى 23/346 ). فالمجتهد عند ابن تيمية لا يُحكم بكفره ولا بإثمه ما دام قد بذل جهده في الاجتهاد، ولا فرق في ذلك بين ما يسمى أصول دين أو فروعه، أو ما يسمى مسائل خبرية أو مسائل عملية. ثم نبه على أن السلف لم يكونوا يتعاملون في مسائل التصويب بناء على تقسيم الدين إلى أصول وفروع، كما يفعل المتكلمون، والإشكال أن القصور في فهم منهج السلف أوقع المجتمعات الإسلامية في الكثير من البغي والعدوان عند الخلاف، ولذلك فالمجتهد الذي بذل وسعه في حكم مسألة، ولو كانت في مجال الاعتقاد، لا يُسارَع إلى اتهامه وتأثيمه في شخصه، بينما مجال مناقشة الأفكار وتخطئتها هو ميدان الحجج والبراهين، وهذا أمره واسع ومقبول. كما أن ربط الخلاف بمجاله العلمي والبرهاني من دون تجاوزه إلى مآل الشخص الأخروي، أمر متعين وجوهري في منهج البحث والاستدلال، وللإمام الشاطبي توضيح في هذه المسألة في قوله: «إن هذه الفِرَق إنما تصير فرقاً بخلافها الفرقةَ الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدةٍ من قواعد الشريعة، لا في جزئية من الجزئيات، إذ الجزئيُّ والفرع الشاذ لا تنشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرُّقُ شِيَعاً، وإنما تنشأ المخالفة في الأمور الكلية» (الاعتصام: 2/200-201). واستيعاب هذه القاعدة قد يخفف لدى بعض المشتغلين في العقيدة عِظَمَ دائرة القطعيات التي تسوغ لهم الإنكار والتشديد على غيرهم. ولعل ما قاله الشيخ عبد الرحمن السعدي يصب في أهمية التأكيد على هذا المنحى التقريري في منهج السلف الصالح، عندما قال: «إن المتأولين من أهل القبلة، الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً، والتزموا ذلك لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العلمية، فهؤلاء قد دلّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدّين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصّحابة والتابعون ومَن بعدهم من أئمة السلف على ذلك» (الإرشاد في معرفة الأحكام، مكتبة المعارف ص: 207). ثالثا : إشكالية تأثير الدرس العقدي على الفقهي من حيث غلبة الحسم والجزم في التحريم بشكل أكبر حتى لو لم يظهر دليل التحريم بنصه، أو في ذكر الوجوب بشكل أقل حتى لو لم يظهر دليل اللزوم بعينه، فالمشتغل بمسائل الاعتقاد يميل إلى حسم خلافه بالتحريم إذا كان في المسألة نهي، من دون أن يتحرج في إطلاق الحكم المانع بصورة جازمة لا تقبل التخفيف لأي خلاف، وعدم التورع في ذكر التحريم المغلّظ في المتشابه من النصوص، بينما سلف الأمة كانوا يتورعون في إطلاق التحريم، مع استقراره في فقههم، لخوفهم من التألي على الله تعالى بالجزم بالتحريم، لهذا كانوا يستبدلون لفظة الحرام ب «الكراهة»، أو «لا يعجبهم» أو غيرها من الالفاظ، وقد نقل ذلك عن الإمام أحمد وغيره من السلف (انظر: الفروع لابن مفلح 1/66، اعلام الموقعين 1/39-41). هذه الإشكاليات السابقة وغيرها أعتقد أنها تسوّغ لنا ضرورة مراجعة خطابنا الفقهي وفحصه، وتداخل العقدي معه، وإعادة الاعتبار لمنهجية النظر في الاجتهاد بين ماهو كلي وأصل ثابت في الشرع وبين ما يقبل النظر ويسع فيه الخلاف ويتعدد فيه الرأي، وهذا سيسمح بوجود مناخ فقهي معتدل ومتسامح لا يفرض توجهاته على الجميع كقوالب جامدة تضطر البعض إما للمواجهة أو الانسحاب، وفي كلا الأمرين سنفقد ثراءً علمياً وعطاءً معرفياً قد يساهم في علاج الكثير من معضلاتنا الحضارية. * كاتب سعودي