في إحدى القصص القصيرة جدًا التي قرأتها مؤخرًا، قدّم لنا الكاتب فيها واحدة من شخصياته وهو الابن ذو الخمسة والعشرين عامًا بطريقةٍ ملتبسةٍ، جاعلًا إياه أثناء رحلته في القطار بجوار أبيه، يبدي فضوله من كلِّ ما تقع عليه عيناه، كما لو أنه طفلٌ صغيرٌ للتو قد خرج إلى الحياة، حيث كان يثير اهتمامه منظر الأشجار التي تسير وراءنا على حد وصفه، كذلك قطرات المطر التي نزلت على يده الممدودة خارج النافذة، إضافة إلى الغيوم التي يقول لأبيه عنها: إنها تسير مع القطار، وغيرها من المشاهد التي يتفق الجميع، بسبب عاديتها ورتابتها، على أنها من البديهيات التي لا تستدعي كل ذلك الهتاف يوميًّا. بالمقابل، لم يكن الأب الجالس جوار ابنه يشارك المستمعين الآخرين من الركاب استغرابهم عما يصدر من ابنه، بل على العكس تمامًا، كان أثناء القصة يجاري ابنه وهو سعيد بذلك، الأمر الذي دفع أحد الركاب الآخرين إلى توجيه ملاحظة للأب السعيد بضرورة زيارة الطبيب، وإخضاع ابنه الذي لا يبدو لهم أنه بخيرٍ للفحص؛ إذ إن ما يتفوه به بناء على ما يرصده لا يعكس مستوى عقلياتِ شابٍ بنفس عمره. إلى هنا تمكن الكاتب في تسيير القصة حسب مراده، وقد برع في تعزيز قناعةٍ لدى الركاب، والقراء على حد سواء، بأن الابن فعلًا بحاجةٍ إلى العلاج وزيارة الطبيب فورًا. لكن جواب الأب على ملاحظة الراكب قد قلبت موازين القصة، وتحول الظن الذي كان ملازمًا لنا منذ بداية المشهد إلى العكس تمامًا! وبالوقت الذي كنا فيه على يقينٍ تامٍ بمرض الابن دون أيّ شك، قال الأب للراكب: «إننا قادمون للتو من المشفى، حيث إن ابني أصبح بصيرًا لأول مرة في حياته». كان جواب الأب نهاية القصة، ومعه قد أدركنا أن الشفاء، لا المرض، هو الحقيقة والسبب وراء تصرف الابن بتلك الطريقة التي بدت للجميع غير مألوفة! وهذا ما كنا لا نراه، وهو بالضبط موطن المفارقة في القصة، عند إحالة الظن من حالة لأخرى على النقيض منها، وجمع الشيء وخلافه معًا في مشهدٍ واحدٍ، على أن يكون أحدهما الظن الذي يتبناه الجميع، والآخر هو الحقيقة غير المرئية لهم، رغم مثولها أمامهم طوال الوقت، كما فعل كاتب القصة -المذكورة أعلاه- حين قاد الجميع في ذات المشهد نحو العمى عن رؤية الشفاء الذي يظهر على الابن حقيقة، والتسليم بمرضه، مذكرًا إياهم ضمنيًا بأن العيون مهما كانت سليمة فإنها لا تكفي للحكم على الأشياء. إثارةُ الظن، إن جاز قول ذلك، حيلة من حيل أساليب الكتابة لا سيما القصة القصيرة جدا. يلجأ إليها الكاتب من أجل اصطحاب تفكير القارئ وظنونه باتجاه ناحية معينة، وبالوقت ذاته مريحة للقارئ من حيث ملاءمتها مع خبراته السابقة المسلّم بها، قبل أن يبلغ به النهاية المنشودة التي فيها يكتشف القارئ أن خبراته لم تسعفه، أكان أساء الظن أو أحسنه، وبالتالي يجد نفسه بحاجةٍ لقراءة القصة مرة أخرى، مدفوعًا وقتها بشعور الخذلان ربما، أو الشعور بالصفعة، مما قد يجوز لنا هنا تسمية النهاية بذلك: (النهاية الصفعة). لا يمكن للنهايات في المجال القصصي عمومًا، والقصص القصيرة جدًا على وجه التحديد، إلا أن تكون لحظاتٍ تنويريَّة. وعلى غرار ذلك، ثمة الكثير من القصص القصيرة جدًا التي بُنِيت بطريقةٍ حاشدةٍ لتركيز القارئ منذ البداية؛ من أجل الظن بشيءٍ ما، لكنه في النهاية يختبر شيئًا آخرَ، ليس مختلفًا فقط، بل إنه مثيرٌ للدهشة والتساؤلات، شيءٌ قد يحثك على مراجعة نفسك، ونهاية لسان حالها يقول لك بكلِّ صراحةٍ: إنك لم تكن ترى جيدًا.