الأحساء ليست واحة النخيل وأرض النفط والزراعة والصياغة والصناعة والغوص وصيد البحر فحسب، بل ومنارة العلم والفكر، واحة الشعراء والأدباء والعيون والنخيل، أرض الثقافة والأدب، وأيقونة التسامح والتعايش والتنوع المندمج اجتماعياً.. الأحساء إقليم عظيم من الأقاليم التي شكّلت خارطة المملكة العربية السعودية، وبانضمامها إلى الوحدة الوطنية الأصيلة والعريقة لشبه الجزيرة العربية اكتسبت تلك الوحدة ثقلاً سياسياً واقتصادياً، فالأحساء مرسى ومحطة لكثير من القوافل التجارية للبلدان المجاورة للسعودية من زمن بعيد، ولذا فإن انضمامها للوحدة السياسية السعودية جعل العالم كله يغير من نظرته في التعامل مع الكيان العربي الذي لم يكن مفهوماً لكثير من قوى العالم المتصارع حينها، فقبل النفط كانت الأحساء وما حولها مركزاً للإبحار التجاري سواء بنقل القوافل أو الغوص لاستخراج كنوز البحر أو صيده المفضل في الطعام. ومنذ توحيد البلاد على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن - رحمه الله - والخيرات تنهال على هذه الأرض المباركة؛ ففي عام 1939م توج الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - عصرا جديدا للمملكة مع تصدير أول شحنة للنفط، وبعد عقود مهدت أكبر تحديات عصرنا التي تواجه البشرية وكوكبنا ما يستوجب أن نغير مسارنا من خلال دمج سياسات وأهداف المناخ والاستدامة في الاستراتيجية الطموحة والمباركة والشاملة رؤية 2030، والتي حظيت بدعم ورعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله -، وهي رؤية ولي العهد - حفظه الله - لمستقبل هذا الوطن. مواردنا الطبيعية نعمها عظيمة ومن أجلّ النعم وأعظم المنن، وهي عمود اقتصادنا وهيكله وذروة سنامه، وبحسب الأممالمتحدة هناك 1.2 مليار شاب تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، يمثلون 16 في المئة من سكان العالم، لا الزراعة ولا الصناعة قادرة على استيعاب تلك القوى العاملة في المستقبل. ولهذا رسمت رؤية 2030 ملامح حقبة ما بعد البترول، ودشنت أساسيات الاقتصاد السعودي بعد نضوب النفط، وسعت لتطوير قدرات المواطنين، وتحضيرهم للمستقبل، والملاحظة المهمة التي يجب الإشارة إليها، هي أن أحد أهم الأصول الاقتصادية لمستقبلنا تتواجد في النصف الأيمن من أدمغتنا، حيث يتواجد الخيال والإبداع، وهو جوهر اقتصاد المستقبل. الاقتصاد الإبداعي في المملكة هو قطاع اقتصادي واعد، يشمل مجموعة واسعة من السلع والخدمات الثقافية والإبداعية، حيث تعد الصناعات الثقافية والإبداعية أصول اقتصادية لا حصر لها تعزز نمو الاقتصاد وتنمية وتستوعب المواهب وتخلق الوظائف، وتجعله على قدم المساواة مع الصناعة التحويلية في المستقبل، ومقومات هذا الاقتصاد عالية في الأحساء مما يدعم التنمية الاقتصادية المحلية والوطنية، ويساهم بمشاركة الخبرات والتاريخ الثقافي الغني بالمنطقة ويخلق حضارة غنية. الأحساء أرض الحضارات الاستثنائية، أصبحت واحة خصبة للفرص والمشاريع الهائلة بفضل من الله، ثم بقيادة حكيمة، تحت ظل حكومة مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي عهده - حفظه الله وسدد خطاه -، لرفع تنافسية الأحساء وجاذبيتها كوجهة مثالية للاستثمار والاستغلال الأمثل لمزاياها النسبية وقيمتها الاستثنائية في قطاعات رئيسة كالطاقة، والصناعة، والتعدين، والخدمات اللوجستية، وقطاع الصناعات الثقافية والابداعية، والزراعة والتجارة، ومساحتها التي تعادل 20 ٪ من مساحة المملكة العربية السعودية، إضافة إلى كونها منفذاً لثلاث دول خليجية، لتساهم في تحقيق تحول المملكة لقوة صناعية رائدة ومحور لوجستي عالمي، ورفع تنافسيتها وجاذبيتها كوجهة مثالية للاستثمار. بالأمس القريب كانت الأحساء محط أنظار الجميع، مع حدث اقتصادي استثماري نوعي بعنوان منتدى الأحساء 2023، وبرعاية كريمة من أمير المنطقة الشرقية الأمير سعود بن نايف وسمو المحافظ الأمير سعود بن طلال - حفظهما الله -، وحضور عدد من الوزراء ونواب الوزراء وكبار المسؤولين، وتم الإعلان عن عدد من المشاريع والمبادرات والفرص الاستثمارية الكبرى بقيمة تفوق 8 مليارات ريال، واعتماد الأحساء مركزًا وطنيًا وإقليميًا للخدمات اللوجستية لتصبح ضمن خطة المملكة للتحول إلى مركز لوجستي عالمي. وفي ذلك دلالة قوية لنهضة تنموية شاملة ستشهدها الأحساء خلال المرحلة القادمة، في ظل مقومات نجاح وفرص استثمارية هائلة بالمنطقة، وخاصة في ظل القرار الملكي بإنشاء هيئة تطوير الأحساء. الجدير بالذكر أن جميع المراكز المالية الحديثة حول العالم تقريباً منذ الثورة الصناعية، تطورت بفضل الخدمات اللوجستية، لأن وراء اللوجستيات، غالباً ما يكون هناك التقاء للتصنيع والتجارة والنقل والمواهب، والخدمات المالية، تتدفق السلع والتكنولوجيا والمواهب والاستثمارات، لتصبح مع مرور الزمن مركزاً مالياً وتكنولوجياً ولوجستياً. ولطالما اعتبر الاقتصاديون أن الابتكار هو مفتاح النجاح الذي حققه الاقتصاد الأميركي، ففي العام 1957، اعتبر عالم الاقتصاد روبرت سولو الحائز على جائزة نوبل أن الابتكار ساهم بنحو 90 بالمئة من نمو الإنتاجية في الولاياتالمتحدة الأميركية خلال النصف الأول من القرن العشرين. وقدّر ويليام بومول في العام 2011 أن حوالي 90 بالمئة من الناتج الاقتصادي الحالي في الولاياتالمتحدة الأميركية "تحقّق بفضل الابتكار الجاري منذ العام 1870". ويمكن للصناعة الإبداعية في الأحساء، أن تدعم الابتكار وتعززه، وهي قوة حديثة دافعة لتشكيل وتطوير مستقبل الأحساء، والاقتصاد الإبداعي يعزّز الشمول، والتنويع الاقتصادي، والابتكار، ويلعب درواً فاعلاً في التعددية الثقافية، والتنمية الاجتماعية، ما يخلق بيئة معززة لتطوير مجتمعات فريدة من نوعها في الأحساء، إضافة إلى دوها المهم في تعزيز القدرة التنافسية والتنمية الحضرية، وإذا نظرنا للاقتصاد الإبداعي في العالم، وتم اعتباره دولة، فسيكون رابع أكبر اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدة والصين واليابان، وتاسع أكبر مصدر، وستمثل رابع أكبر قوة عاملة في العالم، وأقل عرضة للكساد وتقلبات السوق كغيره من السلع والمواد الخام. ولتمكين هذه الصناعة الإبداعية أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، حيث أكد تطلعاته لتحفيز الإبداع والابتكار من خلال الإستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية في المملكة العربية السعودية لخمسة أعوام قادمة، وذلك بعد قرار مجلس الوزراء باعتماد الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، وأن الأحساء لن تعزز ميزتها التنافسية بمواردها الطبيعية أو موقعها الجغرافي فحسب بل بالثقافة وهي الحمض النووي للأحساء، وإنسانها الأحسائي المبدع والمبتكر، سيكون حجر أساس ومصدر للإبداع والقوة الحيوية التي ستقود الاقتصاد. أين هي الأحساء اليوم؟! هي في قلب كل مواطن محب لهذا الوطن، بفضل العناية التي أولتها قيادة هذا البلد المعطاء وجعلت لكل منطقة في بلادي ما يناسبها من خطط التنمية والتطوير، فالأحساء ليست واحة النخيل وأرض النفط والزراعة والصياغة والصناعة والغوص وصيد البحر فحسب، بل ومنارة العلم والفكر، واحة الشعراء والأدباء والعيون والنخيل، أرض الثقافة والأدب، وأيقونة التسامح والتعايش والتنوع المندمج اجتماعياً، وهي أم ولود للعقول المبدعة والأفكار المبتكرة، وهي وجهة اقتصاد واستثمار للمستقبل لذلك وغيره كانت الخطط المرسومة لتنميتها من ولاة الأمر تناسب استثنائيتها.