حين يصبح النقد في بيئة أَدبية وجهًا آخَر من النقض، تنتفي المسافة بين النقد والنقض، ويفقد الناقد صدقيَّته فيتحوَّل ناقضًا كل ما يراه أَو يكتبه أَو يقيِّمه. من هنا أَن بين ما يشوب شعرنا اليوم (كما في كل عصر سابق): وقوعه في مِحنة النقد. والعلاقةُ جدليةٌ وُثقى بين الشعر والنقد (كما بين النقد وأَيِّ فَن آخَر). كلُّ حركةٍ شعرية رافقَتْها حركةٌ نقدية. والشعر كي ينمو يلزمُه اثنان: قارئٌ رهيف وناقد ثقيف، الأَخير يُهيِّئ الأَول كي يتبيَّن تكامُلَ القصيدة وتَمَوْقُعَها وتواصُلَها مع تراثها أَو... انسلاخها عنه. الحاصل عندنا في معظم البيئات العربية، أَن معظم النقد تنظيرٌ فوقيٌّ، أَو موقفٌ شخصي مُسْبَق (سَلْبِيًا كان أَو إِيجابيًا أَو مُحايدًا)، أَو هو سردٌ للنص انطباعيٌّ. والناقد إِجمالًا (كي لا أُعَمِّمَ فأَظلُمَ بعض الجدّيين) إِمّا صديقٌ مسْبَق أَو خصْم مسْبَق. مدّاحٌ سَلَفًا أَو قدَّاح سَلَفًا. وهو في معظم الحالتَين غارقٌ في نظريات معلَّبة جامدة، مصنِّفٌ ذاته سلفًا في موقف غير محايد. الناقد المُنصف هو الذي يتناول النص الشعري في ذاته، دون مراعاة كاتبه الذي قد يكون من أَصدقاء الناقد أَو حتى من غير معرفة به، فيتناول نصُّه النقديُّ النصَّ الشعريَّ مادةً حيادية في مجهره، يعالجه بما هو فيه، وأَين هو من الحركة الشعرية الموازية في العصر، بدون أَيّ مراعاة لشخص الشاعر أَو شخصيته. الشعر وحيٌ؟ صحيح... لا يؤْتى لِجَميع الناس؟ صحيح كذلك. لكنّ الصحيحَ أَيضًا أَنّ الشِّعرَ موهبةٌ وصناعةٌ معًا: جناحان لا يطير شاعرٌ إِلَّا بِهِما معًا. وليس جِدّيًّا أَن يكتفي الشاعرُ بالسبْكة الأُولى للقصيدة بِحجّة أَنّها "هكذا أَتَت"، بل عليه أَن يعمل على كتابته الأُولى صقلًا وتَجويدًا حتى تليقَ بالشعر والشاعر، كما عقدُ اللؤْلؤ لا يُهدى إِلى الحبيبة بِحالته البدائية الأُولى بل بعد صقله ونِهايات بَلْوَرته. الشاعر الكبير (ومثْلُه الناثر الكبير) هو، إِلى موهبته، حِرَفِيٌّ صَناع، يُتقن اللعبات اللغوية والجمالية جَميعَها، ويَمارسُها ببَراعة حاذقة. ومتى امتلَك الشاعر حرفيّته، أَتاهُ الشعر يترجم شاعريته أَكثر. وإِذا الشاعر عادةً مُلْهَمٌ مأْخوذ بحالة من اللاوعي حين يسكب قصيدته، فالحِرَفِيُّ فيه هو ذاك "الآخر" الواعي: ينبِّهه ويَقيه عثراتِ القلم وشطَطَ الاسترسال. وحين في الشاعرِ يتصالَح المُلهَم "اللاواعي" والحِرَفِيُّ "الواعي"، يَخرج الشعر لَمّاعًا أَكثر، مُشعًّا أَكثر. يصير شِعرًا أَكثر. لذا حدَّدَ اليونان الشعر بأنَّه "عربةٌ يَجُرُّها حصانان: العاطفة والخيال، ويَسوسُها حوذِيٌّ حكيمٌ هو العقل". إِذًا: لا بُدَّ في الشعر من "الوعي" كي يُعَقْلِنَ "اللاوعي"، كما لا بُدَّ للرسام من زيتٍ تأْسيسي -مهمتُهُ أَن يَشُدّ نسيجَ القماش كي لا يتفسَّخ مع السنوات فيُشَقِّقَ لاحقًا طبقاتِ الأَلوان التي عليه- يَدهن به قِماشَتَه البيضاء قبل أَن يَدخل في حالات "اللاوعي"، أَي حالات الإِبداع خُطوطًا وأَلوانًا حتى ولادة اللوحة. جميع هذه الأُمور أَعلاه، على الناقد أَن يعيها في ذاكرته وثقافته ومنهجه النقدي، قبل أَن يُقْدِمَ على تناوُل نص شعري ليرى إِليه من مجهر النقد. فإِن امتلَك تلك "العُدَّة" الثقافية، جاء نقْدُهُ واضعًا النصَّ المنقود في إِطار سليمٍ يُفيد منه الشاعر وقراؤُه معًا. هكذا يكون النقد فعلًا ضرورة يتطلَّبها الشاعر، ومرآة ينتظرها القارئ، ويكون الناقد عندئذٍ ميزانًا يحترمه الجميع، لا مجرَّد مُدَّعِ شخصي ضائع بين النقد والنقض. هكذا يصبح النقد ضروريًّا لكل عمل فني أَو أَدبي إِبداعيّ، وليس ضروريًّا أَن يكون الناقد شاعرًا أَو ناثرًا، لأَن الفرق واضح بين المبدع صائغ اللؤلؤ، والحِرَفيّ جامعِه عقودًا وأَشكالَ حِلِيّ.