لا أحد يسأل لحظة قراءة قصيدة، ما السبل لفهمها؟ لذلك يبدو التساؤل المسبق عن كيفية قراءة القصيدة الحديثة كمن يحطب في البحر. ولكن مناهج النقد وضعت في السياقات المعرفية سبلاً أولية للقراءة على رغم ان هذه المناهج لا تعطينا طرقاً دقيقة في معظم الأحيان، بل تسهل عملية القراءة، لا سيما انها مناهج ليست بريئة من الغرض، بنت مفرداتها على نماذج قد لا تكون متوفرة دائماً، خصوصاً ان العلمية فيها تتعرض لاهتزازات مستمرة من داخلها ومن خارجها، وعليه ليس كل قارئ على علم تام بهذه المناهج ولا بتطوراتها. وعندئذ ليس من سبيل الى فهمها إلا ان تكون عدتك ذاتية بحت. فالقصيدة تختزن أسئلتها، ولكن عدم التساؤل عن هذه الكيفية إشكالية بحد ذاتها. إذن كيف نهتدي الى قراءة القصيدة؟ أولاً: قبل البدء بقراءة القصيدة علينا ان نضع افتراضاً نقدياً ما عن سبب اختيارنا هذه القصيدة دون سواها، لهذا الشاعر من دون شاعر آخر، أو من هذا الشكل الفني الحديث وليس من الشكل العمودي… الخ من الافتراضات النقدية التي تثار في أول الأمر كسؤال مبهم كي نضع القراءة في إطاره. فنحن لا نقرأ الا اذا كان ثمة حاجة ما، إذ ليس من قراءة بريئة على الإطلاق. ثانيا: لا تقرأ القصيدة إلا كاملة، ودفعة واحدة. كي يتألف ما يسمى وحدة الانطباع، فاذا جزأت القراءة فقدت القصيدة سياقها، فثمة تواشج خفي بين القراءة المتتابعة وافتراضات الذهن في تكوين الرأي عنها. ثالثا: ان وجدت فيها ما يتفق والسياق النقدي المفترض الذي وضعته أول الأمر تكون مهدت الدخول اليها من مجالين: المجال النقدي المفترض وهو مجال خارجي، ومجال القراءة الذاتية لها وهو مجال داخلي. وهذه أولى خطوات الدخول الى القراءة الدقيقة. رابعاً: لا نقرأ القصيدة الحديثة إلا إذا كنا عارفين ماذا نقرأ، فقد يختلط علينا النثر الموجود فيها والشعر، وقد لا نحسبها قصيدة حديثة بل هي مقطوعات شعرية، وقد لا تكون لنا قراءات سابقة في هذا الميدان، كي لا نفاجأ بأننا نقرأ نصاً لا دراية لنا بتاريخه ولا بالتطورات التي لحقت القصيدة ولا بأشكالها ولا الفترات التي مرت بها. في حقيقة الأمر ان القارئ حتى المبتدئ منا، شأنه شأن الطبيب أو القاضي، لا يمكن معالجة قضية ما إلا اذا كان مطلعاً على قدر أكبر من تاريخها. خامسا: لا نقرأ القصيدة إلا اذا كانت منعزلة عن سياق ناقد - قارئ آخر، فلكل قراءة سياق يضع القارئ قراءاته للقصيدة في إطار مفاهيمي خاص به، وبالتالي فالنتائج المعلن عنها في قراءة الآخر تبقى محددة بالإطار النقدي الذي وضعه لها. فقد يكون استشهد بنماذج من القصيدة رأى فيها ما يتوافق ورأيه، وأي نماذج لا تمثل الكل. فنحن لا نستعير ألسنة غيرنا في القراءة. سادساً: لا تقرأ أجزاء من القصيدة في كتاب آخر، ونقول اننا قرأناها حتى لو كانت القصيدة كاملة. فقد يلجأ بعضنا الى قراءة اليوت مثلاً من خلال مقاطع منتقاة من "الأرض اليباب"، في كتاب نقدي أو هاملت شكسبير من خلال حوار بين هاملت وأوفيليا فقط شاهدناه على المسرح وفق رؤية مخرج وأداء ممثل. أو الجواهري من خلال مقاطع من قصيدة "المقصورة"… الخ القصيدة مثل الشاعر لا يقبل التجزيء عند قراءته فالشعرية ليست أجزاء تقبل ان تكون كلاً عندما تقرأ ضمن موضوع آخر. والقصيدة عالم مغلق، لا تقرأ الا لوحدها شأنها شأن الشاعر لا يقرأ أجزاء منه للحكم عليه. هي إذن اشكالية القراءة نفسها، تلك التي تتعامل مع القصيدة بوصفها عالماً كلياً مغلقاً على ذاته يختزن الأسئلة، وتلك التي تقرأها لتستعيرها لموضوع آخر ومن ثم لا سؤال فيها أو عنها. والشعر في الحالين يقف على مبعدة من سؤال النقد. في الحال الأولى تصبح قراءة تجربة الشاعر قراءة أجزاء من قصائده فقط، وقراءة قصائده مفترقة ليست الا الشاعر موزعاً على مراحل. وفي الحال الثانية تصبح قراءة القصائد ضمن قراءة موضوع آخر، ليست إلا مجاورة مع معارف ومرجعيات اخرى لا يربطها الا الموضوع، حتى لو كان الموضوع عن الشعر نفسه. وعندئذ لست بقارئ لا للقصيدة ولا للشاعر. فهل يبقى من الشعر في الحالين شيء؟ سابعاً: قبل القراءة علينا ان نفهم بعض آليات النص الشعري، ونبدأ بالسؤال: هل هناك لغة شعرية ولغة غير شعرية؟ هذا التساؤل البسيط يحتوي في داخله على تعقيدات كبيرة، هناك من يرى ان كل الكلمات تحمل شعرية عندما توضع في سياق شعري، والكلمات نفسها لا تحمل الشعرية عندما توضع في سياق غير شعري. هذه من البداهات، ولهذه الحال أشكال كثيرة فعندما تأتي باقتباس من قصيدة وتضعه في سياق المقال النقدي لا يصبح الاقتباس شعريا حتى ولو كان مموسقاً ومحافظاً على كلمات الشاعر نفسها، لأنه دخل في سياق نص غير شعري وخضع لمنطق تحليلي آخر. لكن هل يصبح نتوءاً شاذاً في السياق اذا لم يجد الكاتب استخدامه، أم انه يصبح خاضعاً لسياق المقال عندما يكتشف الكاتب قوة النثر فيه؟ عندما ندخل في هذه النقط، نعيد الى الأذهان ان اللفظ يكون شعرياً ويكون نثرياً ليس من خلال استعماله فحسب، بل للطاقة التي يملكها في داخله وهذه الطاقة الموجودة فيه لا ترى نقدياً ولا شعرياً ولا نثرياً بل هي من البقع السديمية في اللفظ، تلك التي ما ان نقترب منها حتى تختفي عنا. ومنها إذا أخذت كل لفظ من المقطع الشعري لوحده، لا تحصل على الشعرية في المقطع عندما تقرأ كلمات معاً، مما يعني ان الشعرية هي "العلاقة" بين كلمات المقطع الشعري، وليست في الكلمات المتضمنة في المقطع. وهناك من يرى ان الشعر ليس من نصيب اللغة بل من نصيب الكلمات، واللغة لا تحدها طبيعة الكلمات بل تعينها طريقة الصوت، والصوت في مجمله جزء من تلك "العلاقة". هذه الأسئلة ضرورية لفهم كيف نقرأ، ولماذا نقرأ، فقد نطبق الكثير من خطوات القراءة السابقة ولكن إذا لم نقف عند الكلمة الشعرية في النص لا نستطيع أن نقرأ نصاً شعريا، بل نقرأ نصاً آخر حتى ولو كان شعراً. ثامنا: في سياق قراءة القصيدة الحديثة لا نجد قراءة واحدة لها، فكل قارئ - ناقد يقرأ القصيدة قراءة خاصة به، ولنا في الأدب العالمي قراءة قصيدة بودلير "القطط" من قبل عدد من النقاد والباحثين الفرنسيين، وكانت النتيجة قراءات وليست قراءة واحدة، مما يعني ان القراءة لا تتم الا بوجود أكثر من قارئ لها، بمعنى ان قراءتنا القصيدة لا تكون تامة الا بعد مقارنتها بقراءة ثانية وثالثة ورابعة..الخ، فهي كأي قضية تعرض على المحاكم لا بد من وجود عدد من الأدلة لصالحها أو ضدها. والقراءة المفردة مهما كانت دقتها تعاني من فقر نظري وتطبيقي. في حين ان القراءات المتعددة انتجت آراء منطلقة كلها من القصيدة نفسها مما يعني ان هذه القصيدة قادرة على منح القراء تصورات نقدية عدة. ولنا أمثلة كثيرة في قراءات شكسبير والمتنبي والسياب المستمرة، ومع اني لا أنوي هنا تعميم مثل هذه القراءات من دون ان يكون هناك موضوع جديد يستدعي هذه القصيدة كي تقرأ وتهمل تلك، أو قراءة شعر مرحلة مكتملة وليس لكل المراحل. انما أدعو الى فهم آلية قراءة القصيدة أولا قبل آلية مادة القصيدة. فالقصيدة هي النص الذي ينفتح في هذه القراءة - المرحلة، وينغلق في تلك القراءة - المرحلة. وفهم آلية القصيدة يخضع بالضرورة لشروط ليست خارجية، بل هي شروط كامنة في اللغة الشعرية نفسها تلك اللغة المحملة بدلالات المعنى. تاسعاً: في سياق القراءة الحديثة للقصيدة نكتشف باستمرار ان ثمة بقعاً فيها في حاجة الى تغيير، في حين لا تحتاج مقاطع أخرى ذلك. وما دمنا لسنا شعراء نكتفي بالقول ان هذا المقطع في حاجة الى اعادة نظر، فينما المقطع الآخر مكتمل النضج، وهكذا تكون ملاحظاتك النقدية عن أجزاء القصيدة وليس عن القصيدة، ولكن هل تنفع مثل هذه الطريقة في تكوين رأي مكتمل عن القصيدة كلها؟ لأن القصيدة الحديثة ما عادت نوعاً نقياً شأنها شأن أي جنس آخر، مما يعني ان أي قراءة لا تقوم من داخلها قراءة ناقصة، فالفهم السابق للقصيدة الذي يأتي بمقطع نثري وآخر شعري ويقول ان القصيدة الحديثة غيّرت ثوب جنسها، رأي غير ناضح نقدياً، بل ان تطور البناء نفسه فرض على القصيدة الحديثة ان تفتح جسدها لمقاطع نثرية من دون ان تكون قصيدة نثر. هذا أيضاً لا يعني ان حجم ابيات الشعر في القصيدة أكثر من حجم مقاطع النثر طريقة للمحافظة على جنسها، إنما يعني ان الشعرية لا تجد مكانتها الا في هذه المقاطع التي تكون أقرب الى السياق العام للقصيدة حتى لو امتلأت بأبيات من الشعر أو النثر. عاشراً: لا تقرأ القصيدة الحديثة مرة واحدة، فثمة قراءات لها عدة كي تكتشف مساربها ومستوياتها، تقرأها أول الأمر فيتولد لدينا انطباع بالرفض أو القبول، ولا يقبل مثل هذا الانطباع الا بالقراءة الثانية لها. فاذا قبلت تقرأ ثالثة للكشف عن العلاقة بين اللغة والصور، فالكل في صياغة المشهد الذي لا فكاك للقصيدة من تكوينه. ثم تقرأ من أجل البناء الشعري فيها، وطبيعة الاستعارة أو الرمز أو المحتوى. واذا كنت ناقداً لا تقف عند حدود هذه القراءات بل تصل الى تفكيك صور وبنية القصيدة اللغوية كي تشكل سياقاً آخر هو غير السياق الذي وضعه الشاعر لها. وهكذا يمكن ان تقرأ القصيدة الواحدة مرات عدة وفي كل مرة تكتشف مستوى لا يظهر الا بعد القراءة السابقة لها. اننا نحرث في تربة خصبة وكل عمق منها يكشف عن أحياء مجهرية لا توجد في الأعماق العليا.