لا يعطينا المخرج التونسي رضا الباهي نهاية مفرحة لفيلمه "زهرة حلب" (2016), يترك لنا غصّة خانقة في الحلق أمام مشهد الابن "مراد" (باديس الباهي)، الذي أطلق رصاصة على والدته الملثمة "سلمى" (هند صبري) أصابتها في القلب تماماً. يُقرأ الفيلم عدّة قراءات، فقد أراد البعض أن يغوص مخرجنا في خبايا السياسة لنفهم بالضبط ماذا يحدث حتى يتم تجنيد مراهق من تونس لحرب لا تعنيه في بلاد الشام، كما أراد البعض أن يكون الفيلم وثيقة لفهم لغة الحروب الجديدة التي اندلعت في بعض الدول العربية وكانت تغذيتها تتم بتجنيد شبان ليس فقط من بلدان شمال أفريقيا بل من عقر الديار الأوروبية وأبنائها المدلّلين. لكن الفيلم له هدف آخر ربما، هو إلقاء الضوء على بؤس الأمهات، وبؤس أبنائهن في المجتمعات العربية المنشطرة اليوم بين ثقافة الغرب المتفوّق علينا وبين تخبطنا كمجتمع عربي في موروثنا الثقيل والمعقّد. إنسانياً نتعاطف مع الأم سلمى، وفي الوقت نفسه لا نفهم قرارها بالعودة إلى تونس وجرّ ابنها المراهق من فرنسا، حيث كان ناجحاً ومستقراً إلى بلد كان يعيش مخاضاً غير واضح المعالم والنتائج. مع الموسيقى المؤثرة لعمر علولو يمكن لدموع المشاهد أن تتداخل مع المشهد الأخير للفيلم، لتنبثق الأسئلة العويصة والصعبة منه. نحن نتحدّث عن مجتمعاتنا المتأججة عاطفياً، والتي تقدّس الأمهات، وتعتبر الأبناء الثروة الحقيقية لكل عائلة، إذن لماذا حدث هذا التفكك بين أفراد عائلة صغيرة؟ هل هي قرارات الوالدة حين اعتقدت أن وطنها بحاجة إليها؟ وأن ابنها يجب أن يكبر في بيئتها العربية الإسلامية؟ أم رفض الأب لتلك العودة، بحكم مهنته ووقوعه في خطأ جسيم أوصل زواجه بسرعة إلى نهاية صادمة هي الطلاق؟ بين أم تنقذ الجرحى وتسعف من يتعرّضون لحوادث مختلفة، وبين ابنها الذي تحتضنه عائلته "المتطرّفة" الجديدة وتقوم بتدريبه وتعليمه استعمال السلاح، وبين أب يعيش عزلته مع فنّه، وخالة تدرّب النساء على الرقص في مدرستها الخاصة، نطرح أسئلة أخرى، ماذا عن عشرات الشبان الذين يختارون الجهاد مع أن عائلاتهم بسيطة تتكوّن من أمهات متفرّغات لبيوتهن وعائلاتهن، وآباء يكدحون في وظائف وأشغال عادية، ولا خالات لهم يمارسن الرّقص؟ ما المقصود من تلغيم الفيلم بهذه المعطيات التي يرفضها مجتمعنا جملة وتفصيلاً؟ لقد أخذَنا رضا الباهي في رحلة منهكة لعواطفنا وعقولنا دون أن يقدّم لنا نهاية ترمم جراحنا مثلما تفعل السينما العالمية المأخوذة من قصص الواقع. نحن في الحقيقة لا نحب أن نتعب أنفسنا بالبحث عن قصص بطولية من الواقع، ونكتفي بمخيلتنا المهزومة التي لا تغدو أكثر من مرآة للحكايات اليومية التي نسردها. هند صبري كانت بارعة في دورها، لكنها أبعد من أن تكون زهرة من حلب، العنوان خالٍ من أي إضافة درامية، القصة أكثر من محزنة.