هل من الممكن أن تتحول «الزهرة» إلى «وحش»؟ وهل يعني هذا نهاية الأحزان وامتلاك القوة؟ سؤال من أسئلة كثيرة يطرحها علينا فيلم المخرج التونسي رضا الباهي الجديد «زهرة حلب» الذي حصل على جائزة الإخراج في الدورة الأخيرة لمهرجان الإسكندرية في مصر، فيما نالت بطلته هند صبري جائزة أفضل ممثلة. ما يلفت النظر في الفيلم أمور عدة، بداية من الاسم الذي لا يعبّر عن المضمون، وإنما يبدو كرسالة رثاء لتلك الأم الشابة التي ذهبت للبحث عن ابنها «المجاهد» في مدينة حلب السورية بعد أن استلب الإرهابيون عقله... والحقيقة أن في هذا الفيلم ما يدفعنا الى الحديث عنه سوية مع فيلم آخر عرض في المهرجان ذاته هو «نور» من إخراج اللبناني خليل زعرور. بين فيلمين فهل ثمة ما يربط بين «نور» و «زهرة» حلب؟ نعم، ما تفعله مجتمعاتنا بالمرأة، فإذا كان «زهرة حلب» يطرح قضية أمّ يأخذ الإرهابيون ولدها الوحيد فتقرر استرجاعه، فإن «نور» يطرح نوعاً آخر من الإرهاب تتعرض له بطلته المراهقة حين تجبر على الزواج من رجل يكبرها كثيراً لكونه ينتمي إلى عائلة ثرية وذات نفوذ، تمتلك ما تريده، حتى البشر بل يعاملها الزوج هي وأمها باعتبارهما من العبيد، من دون أن تجد الفتاة سنداً من أمها الفقيرة التي تصنع للأسرة الثرية الفطائر في تلك القرية الجبلية البعيدة، إنه فيلم يتطرق إلى المسكوت عنه في مجتمعاتنا العربية وبينها الزواج القسري واغتصاب إرادة النساء والفتيات لحساب الأكثر قوة ونفوذاً وثراءً من البشر، وتمكن المخرج الذي كتب الفيلم أيضاً بمشاركة بطلته الشابة فانيسا أيوب من أن يطرح قضيته ببساطة وبأسلوب يتملك عقل وقلب المشاهد، لاسيما الجزء الأول الذي بدأ بلحظات المرح التي تعشيها مجموعة أصدقاء وصديقات في مدرسة القرية الذين يستكملون يومهم بعد الدراسة في التحول وسط الطبيعة الساحرة للمكان بجبالها وبحرها، يقيمون حلقات سمر وغناء ورقص ومزاح، وهكذا تتفاعل معهم ومع قدر عال من البراءة ما زال موجوداً حتى تختلف الأمور حين تقع عين فريد (قام بدروه المخرح) العائد من الهجرة لأستراليا بطلب من والدته صاحبة النفوذ القوي ليرثها. يرى الرجل، الأربعيني ابنة الخامسة عشرة وهي تحضّر الفطائر التي أنجزتها والدتها إلى والدته الثرية، فتروق له ويقرر الزواج بها، وتوافق أمه مرغمة ليبقى معها، وتكاد أم الفتاة تطير فرحاً لكونه نسباً لا تحلم به. لكن (نور) ترفض، وتغضب وتحاول الهرب والخلاص وتتمسك بحلمها أن تكبر مع زميلها في الفصل (وسيم) ، لكنه يبدو ضعيفاً، وغاضباً عليها. وهكذا يدور صراع بين (نور) وكل الأطراف بمن فيهم شقيقها العاطل الذي يعاملها بقسوة. وفي لحظة جنون، يطارد الزوج والشقيق (نور) التي ذهبت إلى ملاذها الوحيد (وسيم) ويوسعانهما ضرباً... لتعود إلى بيت الزوج وقد قررت أن تقاومه بطريق آخر. حتى لو كان الثمن موتها. في الفيلم لمحات أعطت له مذاقاً مختلفاً منها ممثلوه الشباب الهواة وبينهم البطلة ذاتها، إلى جانب ممثلتين محترفتين هما عايدا صبرا (أمّ الزوج) وجوليا قصار (أم الزوجة). واستطاعت مديرة التصوير راشيل نوجا تقديم لمحات جيدة للمكان وعلاقة أبطال العمل به، ومونتاج جدلي قام به سيمون هير، وموسيقى توفيق فروخ الموحية، وتلك الإرادة القوية للمخرج الذي مثل هنا أيضاً أول أدواره. سلمى التي خطفوا ابنها في «زهرة حلب» يبدأ قهر الأم حين تكتشف تغير ابنها المراهق وانشغاله عنها وعن عاداته المألوفة، بخاصة عزف الغيتار. ولأن دوامة الحياة لا تتيح فرصاً كثيرة للبشر حتى لو كانوا في بيت واحد، فإن الأم سلمى تذهب إلى والد مراد المنفصل عنها - هشام رستم- تطلب منه المعونة، والاقتراب من الابن، لكنه يواجهها بأن الحل هو استئناف علاقتهما وهو ما ترفضه، لكونهما مختلفين في كل شيء. ويرفض مراد دعوتها المعتادة للعشاء لمناسبة عيد ميلاده، وحين يذهب الى والده يفاجأ هذا بقسوة الابن ورفضه أي مشروب يقدمه إلا القهوة قبل أن يقوم ويعاجله بكلمات صاعقة وأنه سيذهب إلى جهنم. ويختفي «الابن»، فقد كان إخوان الإرهاب قد حاصروه، بداية من منزله حيث يعزف في غرفة تطل على حديقة، وفي الأماكن العامة والحدائق التي يقابل فيها صديقته، وتدريجياً وصلوا به إلى «زعيم الخلية» الذي سأله ماذا تحب من هوايات، وحين أجابه بأنها الموسيقى والدخول على الإنترنت. هلل الزعيم للثانية قائلاً إنهم في حاجة لأمثاله على الإنترنت ببنادق. وهكذا أصبح مراد مسلوب العقل والإرادة وحين هاجم والده لم يعد لبيته بل ذهب إلى خالته قبل أن يذهب للتنظيم ويطلب الانضمام، فتجن والدته، ويقودها بحثها عنه إلى الشاب الذي أغواه وتعرف موقعه. وحين تصل اليه يكون مراد قد غادر إلى سورية، هنا ادعت أنها تريد هي الأخرى الانضمام مثل نجلها، وتسافر وقد تشبهت بنساء الدواعش وحين تقول لنائب الزعيم «أبوالوليد» إنها جاءت لتعينهم بحكم خبرات عملها كمسعفة في هيئة إسعاف تونس، يرحب بها ولكنه يطالبها بالانضمام إلى وحدة المطبخ لأنه لا يوجد عندهم إسعاف، مؤجلاً لقاءها بالزعيم. وتبدأ سلمى في التحري عن التوانسة في التنظيم فتعرف أنهم ثلاثة من أفضل المقاتلين، وتعرف أنهم في مهام قتالية. وحين تقابل أبوالوليد أخيراً لتسعفه بعد أن ساءت حالته يخبرها بأن المبدأ لديهم هو «من واجهنا يقتل» وتظل ساعات صامتة لتتعرض للأسر من فصيل جهادي آخر أغار على معسكرهم، وتغتصب بوحشية ويتركها المغتصبون بعدها ليتسامروا فتنجح في قتلهم وتستر نفسها بملابس وجدتها وتعود من جديد للمعسكر الذي تنتمي إليه في انتظار رؤية «التوانسة» ومنهم ولدها الذي أسموه «أبوهشام» والذي عاد من مهمة قتالية مع زميليه ووقف أعلى المنحدر ليجدوها تدخل الساحة بالزي المختلف وغطاء الرأس الغريب، وليكون الابن هو الأسرع في التصويب عليها... لتسقط سلمى مضرجة في دمائها، ويأتي أبوهشام للتأكد من هوية ضحيته... كان غطاء الرأس قد تزحزح قليلاً فوجدها أخيراً... لينهي المخرج المشهد فوراً من دون تلكؤ مفضلاً إحداث صدمة للمشاهدين عن اللجوء الى ردود أفعال عاطفية، ميلودرامية... فقد قتلت الأم عاطفياً منذ اللحظة التي تغير فيها الابن واستلب وهو في منزلها، وبين أحضانها. ولكن أمومتها وجسارتها أبتا إلا أن تتبعه لتحاول استرداده، ولتكشف لنا عما لم تكن تعرفه عن المكان الذي ذهب إليه مراد والحال الذي أصبح عليه وقد قام بدور الابن الممثل الشاب باديس الباهي فأعطى دوره كل ما يحتاجه من ملامح في البداية، وحتى التحول الكبير في النهاية. وأما من تبقى من الممثلين ومنهم هشام رستم ومحمد علي بن جمعة في دور نزار زعيم الخلية، وريا العجيمي في دور الخالة فقدموا أداءً متناغماً مع الأداء الرائع لهند صبري في دور سلمى الذي أعطته كل مفرداته وكأنها تعيشه بحق وعززه التصوير اللافت لحياة سلمى ومراد في تونس ثم في سورية من خلال المصور محمد مغراوي ومونتاج كاهنة عطية القوي مع رينالد برتزان وموسيقى محمد علولو. من المهم هنا أن نذكر أن «زهرة حلب» شارك في إنتاجه مخرجه رضا الباهي وبطلته هند صبري وعلى صادق الصباح وآخرون.