خلال العشرينات الصّاخبة كانت باريس تستقطب مثقفي العالم أجمع، ومن بين من قصدوها شاب أمريكي مغامر، عاشق للكتابة، ومصاب بجنون العظمة. مارس الملاكمة، الإبحار وصيد السمك، ودخل في سجالات كبيرة سجّلها التاريخ مع أعظم أدباء تلك الحقبة. كان ذلك العظيم إرنست همنغواي، الذي رغم كل ما كُتِب عنه تبقى زوايا مظلمة من حياته لم يلامسها الضوء بعد. العام 2011 قدّم الكاتب الفرنسي باتريك بوافر دارفور في كتاب بعنوان "همنغواي: الحياة حتى الإفراط" أهمّ محطّات حياته، متتبّعاً نجاحاته وانتكاساته حتى اللحظة التي أطلق فيها الرّصاص على نفسه منهياً حياته. إلى هنا يبدو الكتاب من الفئة المهتمة بالسيرة الذاتية للأدباء، وبسهولة يمكن إيجاد مراجع لها في كتب قديمة أو في مقابلات شخصية لمن عايشوا الشخص أو بحثوا في أدبه. لكن أحدهم أخرج كتاب "إرنست همنغواي" لبيتر غريفن (صدر العام 1989) من تحت غبار الرّفوف المنسية، ليتّهِم بوافر دارفور بالسرقة الأدبية، كون هذا الأخير أخذ فقرات بأكملها من الجزء الأول للكتاب ذي الثلاثة أجزاء، وكان عاجزاً عن إعطاء أي مبرّر لما قام به. باتريك بوافر دارفور عُرف كمذيع لنشرات الأخبار لسنوات طويلة، وكاتب لحوالي ستين كتاباً، ومنذ نكسته بسبب سرقته الأدبية تلك، لاحقته لعنة عجيبة، بعد أن قدمت ضده حوالي عشرين سيدة على التوالي شكاوى بالاعتداء الجسدي والسّلوك المسيء ضدهن. العجوز المتقاعد فاجأته تغيّرات العصر، ليس فقط لأنّه اكتشف أنّ الشيخوخة تجرّد المرء من الوقار الوهمي الذي اكتسبه من نجوميته على مدى ثلاثين سنة، بل لم يعد ممكناً ممارسة بعض السّرقات الأدبية "الصغيرة" كالتي قام بها، إلى جانب الخطايا الذكورية التي كانت تمارس دون حسيب أو رقيب على مدى مئات السنين. المذيع السابق تيري أرديسون لم يكن أفضل من زميله، أصدر العام 1993 روايته "بونديشيري" ناسخاً ما استطاع نسخه من رواية قديمة جداً صدرت مطلع الثلاثينات للكاتبة إيفون غايبله، فلم يفلت من الفضيحة، ولا من السقوط الإعلامي المدوي ببرنامجه التلفزيوني الجديد. ربما يفلت سارق الكلمات من العقاب، مادام في النهاية سارقاً للعقول ومعطّلاً لها، لكن المثير للاستغراب هو تمادي اللص في وقاحته واستمراره في ممارسة حياته ظنًّا منه أن استثماره في جهل قرّائه سينقذه، مع أن تغيّرات العصر اليوم فتّاكة ولا ترحم هذا النّوع من الفاسدين، والسؤال الذي يُطرح حقاً هنا هو هل يمكننا على الأقل أن نشهد في العالم العربي من يواجه "كاتباً من نجوم السرقات" وفضحه؟ على الأقل لإعطائه درساً حتى لا يستسهل الجميع السرقة؟ من يقول "لا" ستفاجئه التغيّرات مثل نجم نشرات الأخبار الفرنسي، فقد دخلنا عصراً جديداً وإن تأخّرنا بارتداء عباءته، لهذا لا داعي بالمراهنة على جهل القارئ العربي والاستثمار فيه، فما سرق منا سيعود إلينا ولو بعد حين.