عندما شاركت بورقة عمل بعنوان: "الصحافة الورقية في مواجهة السوشل" في ملتقى قراءة النص الثامن عشر الذي نظمه النادي الأدبي الثقافي في جدة، في بداية شهر مارس المنصرم طلب مني مدير الجلسة د. يوسف العارف أن ألخص الورقة في عشر دقائق، فآثرت الحديث ارتجالاً عن موضوعات باتت همي وشغلي الشاغل في أبحاثي التي بت أقدمها مؤخراً والتي أنوي جمعها في كتاب بعد اكتمال منظومتها. اللافت في الأمر أن معظم التعليقات كانت حول ورقتي لأنها ربما أثارت جدلاً حول مستقبل الورقي عموماً كوسيلة ناقلة للرسالة، حتى على مستوى الكتاب الذي بات هو الآخر مهدداً أمام الطباعة الرقمية، والرقمي عموماً، لكن اللافت في تلك التعليقات، كان تعليق الدكتورة فاطمة إلياس وهي الكاتبة والناقدة المعروفة، وصاحبة الفكر والرؤية التي تقدمها عبر أطروحاتها، أشارت د. فاطمة إلى كتاب الكاتب الأمريكي: د. آلان دونو بعنوان: "نظام التفاهة" والذي تناول فيه ما يعيشه العالم اليوم من تجهيل متعمد للمجتمعات الإنسانية عموماً، حيث يبدأ المؤلف تشريحه النقدي من بذرة النظام الاجتماعي وركائزه، الذي يسود المجتمع الأمريكي، ويقصد بها الأكاديميات وقطاع التعليم، باعتبارها آلة إنتاج المعرفة والثقافة الاجتماعية، فيكشف عن تواطؤ هذه المراكز ذات التوجه الإنتاجي والتجاري البحت الذي يعود بالضرر على الأساتذة والطلبة وحتى على القطاع الإداري، لأنه يجعل الفكرة المحورية لعمل هذه الجامعة أو ذاك المعهد هي زيادة الإنتاج ولو أدى ذلك إلى إهمال غاية العمل التدريسي الأساسية التي تتمثل في تكوين المعرفة ونقلها. وهذا ينعكس على لغة الكتابة الأكاديمية التي يصفها دونو بالمتعفنة بسبب بقاء كل من يمارسها "أسيراً" للنهج التجاري إياه. فنظام التفاهة يُقصي أي محاولة للعودة إلى هدف التعليم المعرفي والنهوض به فلا ينتج سوى الكاتب العاطل عن العمل، والمعلم غير المستقر، والأستاذ الجاهل، يتسنى لهؤلاء وحدهم أن يعملوا بشكل حر من دون القلق بشأن عدد الأبحاث التي ينبغي إنجازها سنوياً. يلقي الكاتب الضوء على المرحلة التي بلغناها "ويقصد هنا مجتمعه على وجه التحديد ودول صناعية أخرى" في ظل نظام التفاهة، إذ أصبحت المهنية الأكاديمية مجرد روتين تعيس يقضي على البحث والشغف المعرفي، حتى أصبح الخلاص يتمثل في البقاء بلا وظيفة والتمتع بالحرية في الإبداع أو الكتابة أو البحث. ولا يلبث أن يرتقي الكاتب في بحثه عن التفاهة سلمها إلى مستويات أعلى ليصل إلى التجارة ورأس المال، حيث يحرك الاقتصاد اليوم روبوتات وخوارزميات لسنا قادرين على استيعاب آلية عملها وسرعتها، لكننا مجبرين على دفع ثمن أخطائها. في هذا السياق تُستخدم برامج التثقيف الاقتصادية لتشتيت الناس ومنعهم من إدراك الفوضى السائدة في جوانب شتى، ليؤكد أن الاقتصاد يتحكم في الثقافة وفي العلم وإنتاج المعرفة، وكافة جوانب حياة المجتمعات اليوم. شكراً للدكتورة إلياس على إضافتها المهمة عبر تعليقها المثير للجدل. وسوف نحاول في الأسابيع المقبلة أن نعمل عرضاً لهذا الكتاب بمشيئة الله تعالى.