منذ أن عرف الإنسان الإشارات والعلامات، وصولا إلى التخاطب واللغة، ومنها إلى الكتابة، فالطباعة، ومن ثم الاتصال الجماهيري، الذي أعقبه الاتصال التفاعلي على شبكة الإنترنت، مما أسهم في تفاعل ثقافات العالم المختلفة، بالكلمة والصوت والصورة.. الأمر الذي جعل المواقع الأدبية منها خاصة والثقافية عامة، في تنام مستمر، يحاول جاهدا أن يصلح ما أفسدته المعوقات المختلفة.. إلا أن الكتاب الرقمي، والإفلات من مقصات الرقيب بين السلب والإيجاب، والتواصل مع القارئ، والمثاقفة مع الآخر، وحقوق الملكية.. وغيرها، لا تزال تزاحم أصحاب المواقع بالمناكب.. الأمر الذي جعل (ثقافة اليوم) تستطلع واقع هذه المواقع مع عدد من المثقفات والمثقفين. الشاعرة الدكتورة ثريا العريض، ترى بأننا نعيش عصر مهارات استخدام الكومبيوتر، والتواصل عبر الشبكة الالكترونية، مما جعل هذه المهارات أمرا شائعا، ليصبح هذا النوع من التواصل، ضرورة لا ترفا. تقول د. ثريا: المواقع الشخصية تتعدى امتلاك المهارة في استخدام الشبكة بغرض الحصول على المعلومة.إلى تذليل استخدام هذه القدرة لفتح آفاق التواصل المطلق خارج نطاق التحكم من قبل جهة أخرى.. مما يجعل المواقع الشخصية تضمن بذلك امتلاك مساحة أوسع لحرية التعبير، وقد يكون ذلك وسيلة مهمة للوصول إلى الحقيقة المتعذرة بالطرق المعتادة، كما حدث في حالة إرسالات المدون العراقي الذي كان يوصل للعالم الخارجي تفاصيل ما يحدث في العاصمة بغداد أثناء الغزو الأمريكي وقبل سقوط النظام البائد. ومن جانب آخر ترى العريض، بأن المواقع تتيح إشباع رغبة فردية خاصة، عبر امتلاك تلك المساحة والتحكم المطلق فيها، وتفصيلها على خيارات ومواصفات صاحبها بمشيئته الخاصة، وفقا لاختياراته ولذلك يرى صاحبها بأن له موقع الحرية، الذي يعطيه قدرة التعبير عن آرائه ومواقفه واختياراته وحتى تقييمه لمحيطه الخاص. تقول د. ثريا: الموقع الخاص هذا قد لا يبحث صاحب المدونة عن المعلومة العلمية أو التقنية كما يفعل في مواقع البحث المختصة مثل جوجل مثلا ولا حتى التواصل مع الأفراد الآخرين والفئات ذات الاهتمامات المشتركة مثل الفايسبووك او البلاكسو، بقدر ما يجد في الموقع الخاص فرصة التواصل دون شروط مسبقة تحددها جهات أخرى تتحمل مسؤولية الإشراف والتأكد من المحتوى. من جانب آخر أكدت العريض، بأن المواقع الالكترونية قادرة على كسر التقليدية، وتجاوز الخطوط الحمراء، المحددة من جهة ما، كوزارة الإعلام أو المؤسسات الصحفية.. فالمدونة الخاصة، والموقع الشخصي، خارج نطاق التحكم يتمتع صاحبها بحرية مفترضة، من حيث اختيار الموضوع الذي يطرقه أو يعرضه أو يخوض فيه أو يسأل رأي الآخرين حياله، فلا معانة من مقص رقيب يقتطع من مدونته أو تعليقات الآخرين شيئا. وختمت د. ثريا قائلة: هذا يعني وجود منطقة حرجة بالنسبة للمسؤولين خاصة في المجتمعات التي ما زالت تتمسك بالمركزية، وضرورة التحكم في ما تحمل المواقع الإعلامية العامة والخاصة، من محتوى قد لا يحظى برضا الغالبية أو السلطة الرسمية أو حتى التفضيلات المجتمعية. أما الأستاذ الدكتور محمد بن مريسي بن سعد الحارثي، فيرى بأن للثقافة التقنية أهمية في توسيع النظرة الثقافية وتلاقح الأفكار بين الداخل والداخل، والداخل والخارج ويمضي د. الحارثي قائلا: إن إنشاء المواقع الإلكترونية يُعد رافداً كبيراً من روافد تنمية الوعي الثقافي، وضرورة عصريةً تحقق انتشاراً واسعاً بين زوار هذه المواقع، وسرعةً في الحصول على المعلومة، ووفرةً في المعلومات وبخاصة بين زوار المواقع الذين لا يتكبدون دفع الرسوم المالية الباهظة أو حتى الرمزية. كما اعتبر د. ابن مريسي بأن المثقف الذي ينشئ موقعاً إلكترونياً، لابد أنه يهدف إلى تحقيق بعض الغايات التي يرغب فيها.. والتي يرى د. محمد بأن من أبرزها: حفظ إنتاجه العلمي، وسرعة نشره، والتعريف بمنتجه، والدعاية له، والتعريف بغايات موقعه، وبدوره في المشهد الثقافي، وتقديم المفيد لزواره، إلى جانب التحاور معهم في مسائل العلم والثقافة، واستقبال طلاب العلم لتقديم ما يبحثون عنه في طرائق البحث العلمي ومعرفة مصادر المعرفة والإجابة على أسئلتهم. وأضاف د. الحارثي قائلا: إضافة إلى ما أشرت إليه آنفا من أهداف.. فإن المواقع الالكترونية، تحقق جملة أخرى من الأهداف التي ينشدها أصحاب المواقع، وذلك بالارتقاء بالذهنية والترفع عن الابتذال في القول، وتوثيق العلاقة بالانتماءات التصورية والقومية، والوطنية، والإنسانية، واحترام المحاور والمجادل والزائر دونما مصادرةٍ لفكره وتوجهاته إذا كان الهدف من الالتقاء في المواقع يكمن في البحث عن الحقيقة لا غيرها. وختم د. ابن مريسي حديثه فقال: إذا كانت الأهداف من المواقع الالكترونية كذلك أدت المواقع وظيفتها الثقافية باقتدار.. وكانت محل تقدير واهتمام لزيارتها والإفادة منها، لكونها تؤصل المثاقفة على أسس من الوعي وتعميق الرؤية. أما الكاتبة الدكتورة أميرة كشغري، فتتناول المواقع الالكترونية من جانب هام آخر، وذلك من خلال انعدام حماية حقوق الملكية الفكرية، لأصحاب المواقع، مشيرة إلى أن تنامي ثورة الاتصالات والمعلومات، أصبحت المواقع الالكترونية مظهراً حضارياً ومصدراً معلوماتياً على مستوى الشعوب والأفراد. تقول د. أميرة: لا يخفى على متصفح الشبكة العنكبوتية مدى أهمية هذه المواقع، باعتبارها مصدراً للمعلومات، وسجلاً لتوثيق المعرفة والإنتاج الفكري والأدبي للأفراد والجماعات والهيئات والجمعيات.. فكما أن هناك جانبا إيجابيا لهذه الثورة المعلوماتية فهناك جانب سلبي لها، وذلك عندما يساء استخدامها. وبينما ترى د. كشغري بأن الحل، معروف ومطبق على الكثير من الأدوات والوسائل في المجتمع المدني الحديث، مشيرة الى أنه لا يكمن في منع أو تحريم هذه الأدوات والوسائل إذا ما أساء بعض الأفراد استخدامها سواء كان ذلك عن جهل او تعمد. تقول د. أميرة: إن الحل يكمن في إيجاد القوانين المنظمة للاستخدام القانوني الأمثل، والتعريف بهذه القوانين، ورفع مستوى الوعي بها عن طريق فرض العقوبات الصارمة لكل حالة.. سواء استخدم على حدة حتى يتربى الفرد على احترام القوانين، وحتى يحتفظ الأفراد بحقوقهم كاملة. واختتمت د. كشغري حديثها بقولها: على مستوى التنظيم والقوانين لا ينقصنا شيء، ولكن تظل القوانين حبراً على ورق.. إذا لم يصاحبها عاملان أساسيان هما: أولاً الوعي الاجتماعي بالحقوق الفكرية والقوانين الداعمة لها. وثانيهما: آليات تطبيق العقوبات على مرتكبي المخالفات وهذا لا يتحقق ولا يترسخ في ضمير المجتمع إلا عن طريق منظومة تربوية إعلامية متضافرة مدعمة بجهود من قبل الجهات الحكومية المشرفة على تطبيق الحماية. من جانب آخر، استعرض الناقد الدكتور حسين المناصرة، المواقع الالكترونية، بما يمكن أن تقدمه لأصحابها من كتب رقمية، تساير استخدام التقنية العصرية، التي قدمت إلى جانب الكتاب الورقي، الكتاب المسموع، وإلى جانبه الكتاب الرقمي بعيدا عن مقص الرقيب. يقول د. المناصرة: بدءا، لا بدّ من أن نحدد معنى الرقابة؛ ليتحدد معنى التجاوز والمستقبلية: أهي رقابة السلطة السياسية؟ أم الدينية؟ أم الاجتماعية؟ أم الثقافية؟ أم الذاتية؟ أم غيرها.. ؟! وذلك انطلاقاً من أن التابوهات الثلاثة المشهورة بصفتها: السياسية، والدينية، والجنسية؛ التي لم تعد تجسد عقبة أمام المبدعين، الذين غدوا يرون أن لديهم حرية فعلية للتعبير عن ذواتهم ورؤاهم، من خلال النشر الرقمي في مواقعهم الشخصية أو العامة، في مواجهة العوائق الفعلية التي ما زالت تفرض على النشر الورقي الأكثر تعبيرا عن أدبية الأدب من جهة الشهرة الكلاسيكية عموماً. إلا أن د. حسين يرى بأن هناك مسؤولية كبرى تحاصر المبدع الرقمي، تتمثل في الرقابة الذاتية، مشيرا إلى أن الرقابة الذاتية قد حلّت بجدارة مكان السلطات الرقابية الخارجية الأخرى. ومضى د. المناصرة قائلا: ربما تكون الرقابة الذاتية أشد عبئاً من جهة المسؤولية الملقاة على عاتق الكاتب، فيما لو كانت هذه الرقابة موجهة إليه من آخرين؛ لذلك تصبح كتابته التي كانت تشتهر بين القراء أو المتلقين بصفتها ممنوعة، أقل حظوة لدى القراء والمبدعين بصفتها متاحة رقمياً، وأن إمكانية الكسر أو الصدم في الكتابة الرقمية لم تعد باهرة ومثيرة كما كانت في (زمكانيتها) الورقية ذات الصعوبة الخاصة إلى حد ما؛ أي أن التلميح الرقمي قد يكون أجدى من التصريح والجرأة في تفعيل التعبير عن التابوهات؛ لأن الكتابة الرقمية غدت متاحة وأحياناً تكون صراحتها أو جرأتها بذيئة ومترهلة.. من هنا يحتاج الكتاب الرقمي إلى مسؤولية فعلية لتحصينه من الابتذال والسطحية والمباشرة، في ظل الانفتاح وغياب الرقابة الرسمية أو التقليدية. من جانب آخر اختار د. حسين (نعم) إجابة، على إمكانية تقديم المواقع الإلكترونية الشخصية، أو العامة، توفير كتب رقمية، بعيدة عن مقص الرقيب؛ مشيرا إلى أنه بإمكان أي كاتب أن يمارس كتابته بطريقة (مفضوحة) إن أراد ذلك. وأضاف د. المناصرة قائلا: يظل السؤال بعد هذا: هل بإمكان الكاتب أن يكون حراً على الطريقة المطلقة في التحرر، وأن تصير كتابته مجرد طحن سطحي للتابوهات.. ؟! في تصوري أن الكاتب هنا قد يشنق إبداعه؛ لأنه سيفقد مصداقية هذه الكتابة التي كانت تكتسب فاعليتها من مواجهة السلطات التابوهاتية الضاغطة أو القمعية؛ وما دامت توجد كتابة الآن متحررة؛ فأظن أن هذه الكتابة بغض النظر عن جودتها ستبقى دون اهتمام القارئ؛ إن لم تكن خير دليل على التحرر من الرقابة؛ وبذلك لا تعود صالحة للتلقي؛ لأنها لم تثبت مشروعيتها من خلال اختراق الحصار أو الرقابة أو القمع أو ما إلى ذلك؛ خاصة أن سلطة الرقيب لن تتحول فيما أتصور إلى فيروس يهاجم أقلام المبدعين إلكترونياً!! بينما اعتبر د. حسين، بأن الرقابة الذاتية ستكون أشد سطوة في محاسبة الأديب، مؤكدا على أن هذه الرقابة لا بدّ من أن تحضر بشدة فيما لو وجد الكاتب بين من هم رقباء عليه؛ معولا على أن الرقابة هنا ستحاسبه، وستجبره على أن يحذف ويغير بطريقة أو بأخرى إلا سينال العقاب.. كما أكد د. المناصرة، على أن الكتاب سيضعون في اعتبارهم أنهم مرصودون من غيرهم، وأن الرقابة عليهم شديدة؛ وأن الأجدر بهم أن يحسبوا حساب العواقب، منوها إلى كثرة الكتابة بأسماء مستعارة إلكترونياً؛ مما يدل على أنه لا يمكننا أن نتخلص من الرقابة سواء أكانت خارجية أم داخلية تستحضر الخارج من خلال الذات الجمعية!! ومضى د. حسين قائلا: سيبقى الكتاب الورقي سيداً في وهجه الثقافي، وسيكون متاحاً في أي وقت بين يدي المتلقي، وأن بإمكانه أن يكون رقمياً أيضاً.. لكن أن يكون الكتاب رقمياً مئة بالمائة؛ فهذا بكل تأكيد فعل ثقافي غير منجز.. ثم إن وجود الرقابة بحد ذاتها قيمة مهمة لأي كتاب؛ خاصة أن كثيراً من الكتب اشتهرت على وجه التحديد من خلال حصيلة المنع والرقابة التي حاصرتها، وفي حال أن تغيب هذه الحصيلة، يصبح الكتاب مجرداً من أهم أسس انتشاره وتسويقه تجارياً وثقافياً!! فالرقيب ظاهرة سلبية تعويقية من جهة، وظاهرة إيجابية ترويجية من جهة أخرى؛ عندما يجسد وسيلة دعائية لأي كتاب. وما أن يفقد الكتاب الرقمي هذه السمة؛ فإنه سيجسد اضمحلالاً وتقزماً، ومن ثمّ غياباً عن الساحة الثقافية.. هذه الساحة التي لا تتفاعل جيداً مع الكتب الإلكترونية، كتفاعلها مع الكتب الورقية. واختتم د. المناصرة حديثه بقوله: أخلص إلى أن مستقبل الكتاب الرقمي، سيتحرر من الرقابة التقليدية، وسيخضع للرقابة الذاتية، وسيخسر كثيراً على مستوى التلقي؛ إذ سيبقى هذا المستوى معنياً بالكتاب الورقي أكثر من اهتمامه بالكتاب الرقمي؛ هذا الكتاب الذي يحظى بحرية ثقافية غير خاضعة للرقابة، وفي الوقت نفسه بأهمية أقل من أهمية الكتاب الورقي.