قبل أن يهل علينا "الجوال" دخل علينا "البيجر" وكأنه تمهيد له، مع أن من عاشوا في أمريكا نسجوا حوله البدع، وكان من أبرز هذه البدع أن تجار المواشي الأمريكان كانوا يعلقون في رقبة كل بهيمة من بهائمهم، وأبرزها البقر، بيجراِ، إما لتنبيهها إلى مواعيد الأكل والشرب وإما لتنبيهها لممارسة أمورها الأخرى، وقد دربوا بهائمهم باعتبارهم أهل حضارة، على هذه الوسيلة الحضارية التي أغنتهم عن استخدام الكرباج لتلبي مطالبهم. وبعد أن أضافوا إلى البيجر بعض التحسينات الشكلية أرسلوه لنا. وكان وجوده قد تحول في أسواقنا إلى ظاهرة، خلقت بدورها سلوكيات مظهرية جديدة مثل التي أحدثها الجوال، مع أن هذا البيجر لا قيمة له بدون مساعده أو رديفه الهاتف العادي، فهو يقتضي منك بعد رسالة أو عدة رسائل استخدام الهاتف عند عوتك إلى البيت أو مقر العمل.. وكنت في تلك الأيام أحتفظ بمفكرة جيب صغيرة، منها نسخة كبيرة في البيت لتسجيل أرقام الهواتف، ولكثرة الأصدقاء ومحدودية أوراق الدفتر، كنت أسجل أرقام الهواتف بالقلم الرصاص ليسهل علي مسح كل رقم انتهى دوره، وليأخذ مكانه رقم آخر أو جديد. وقد أغنانا الجوال بعد تحسينات كثيرة أجريت عليه منذ ظهوره عن دفتر التليفونات وعن التليفونات معاً، فلا أحد تقريباً يتكلم الآن من الهاتف الأرضي أو يستقبل المكالمات منه. هاتفك الآن معك في جيبك وسيارتك وحمامك ومطبخك وأمام المحاسب وحتى عن زيارتك للبنك أو المستشفى أو أي مصلحة أخرى. في كل مكان أصبح هذا الجهاز الصغير الأنيق منجدك فبواسطته تقرأ منه الكتب والصحف وتشاهد الأفلام والمسلسلات، وتتلقى إذا رغبت كافة المعلومات الثقافية والصحفية والصحية والسياسة والاقتصادية التي تحتاج إليها وأنت جالس في السيارة أو الصالون أو متمدد على السرير، كل ذلك من خلال بث حي ومباشر على مدار اليوم، بل إن هذا الجهاز بات دليلك إذا رغبت الاتجاه الى أي عنوان، فهو يدلك وانت راجل او في سيارتك من خلال حركة لطيفة الى أي مكان، دون ان تضطر للكتابة والرسم واللف في الشوارع، من اجل السؤال او الاستفسار، عن المكان الذي ترغب الاتجاه اليه. والاختراع العجيب الآخر هو السجل المدني وهو أيضا مخزن في الجوال. هذا السجل اغنى الكثير عن حمل البطاقات، مجرد ذكره للموظف كفيل بإنجاز معاملتك او حاجتك في المرور وشركات التأمين والمستشفيات والفنادق وشركات تأجير السيارات وغيرها.. حتى وقت قريب كنت احمل في جيبي محفظة خاصة بالبطاقات وحيزا آخر للبطاقات في محفظة النقود، كل بطاقة لها جهة استقبال. الآن اختصرنا كل هذه البطاقات في مجموعة محدودة؛ حتى النقود اصبحنا لا نحمل منها في محافظنا الا اقل القليل، وجه البطاقة او الجوال الى آلة البيع او الصرف لتأخذ ما تريد دون عناء، حتى بات عندي اعتقاد اننا لن ننتظر طويلا حتى نجد ان التعامل بالنقد المباشر ليس له ضرورة، وان كافة البطاقات والصحف والكتب ودوائر المعارف سوف تختصر أو تدخل في هذا الجهاز الجهنمي الرشيق.