من قلوب تمتلئ بالخشوع، وعيون تدر الدموع، تندفع ألسن الشعراء بالتضرع إلى الله جلّ وعز، وتنطلق بالثناء والدعاء، فتملأ خلاياها وحناياها بنسيم النعيم يهب من الإيمان العميق بالله العلي العظيم، الذي بيده ملكوت كل شئ، الذي يهب جنات، ويجيب الدعاء، ويثيب المؤمنين العاملين، وأمره كن فيكون، إلهنا الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيّوم لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم. وكل إنسان يصبح شاعرًا إذا رفع يديه إلى ربه يدعوه ويتضرع إليه سواء كان في مسجد أو بيت أو متاهة الصحراء..الله معكم أينما كنتم وهو السميع العليم. ويسمو الشعر حين يتجه للسماء، وتعلو النفس على مطالب البشر ومطامع الدنيا، وتحلق الأرواح في ملكوت الإيمان وتُجنح الحروف في اتجاه السماء، ويشرح الإنسان صدره ويفتح ضميره للذي يعلم ما تُجِنُّ الضمائر وما تخفي الصدور: يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ أَنْتَ المُعَدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي قَوْلِ (كُنْ) امْنُنْ فَإِنَّ الخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ فَبِالاِفْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِي أَدْفَعُ مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ وَمَنِ الَّذِي أَدْعُو وَأَهْتِفُ بِاسْمِهِ إِنْ كَانَ فَضْلُكَ عَنْ فَقِيرِكَ يُمْنَعُ حَاشَا لِفَضْلِكَ أَنْ يُقَنِّطَ عَاصِيًا الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالمَوَاهِبُ أَوْسَعُ كل البشر والكائنات فقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد، وكلهم يموتون إلا الله هو الحي الذي لا يموت. يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ والنهايات موجعة، يصيبني شيء من الحزن نهاية كل قصة فما بالك بنهاية إنسان،إلا الشاعر (أبو نواس) فقد شعرت بالفرح مع نهايته لأنه رحمه الله تاب وأناب، وأطلق الأشعار الحارة في الدعاء الممزوج بالدموع والندم الموشح بشديد الأسف على ما فات.. ظل في مرضه يرسل الدعاء ويسيل منه شعر التوبة والرجاء.. وكان آخر ما قال أبيات صادقة صادرة من القلب وجدوها بجانبه حين مات: يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ وحين بلغت الإمام الشافعي تأثر وترحم وصلى على أبي نواس، وله أشعار كثيرة في الندم على مافات وإعلان التوبة لكنها مع الأسف لم تجد من الذيوع ما وجده شعر المجون. وأبو العتاهية له أشعار في التوبة والدعاء تملأ الأسفار: إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي وَما لي حيلَةٌ إِلّا رَجائي وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَنِّ إِذا فَكَّرتُ في نَدَمي عَلَيها عَضَضتُ أَنامِلي وَقَرَعتُ سِنّي يَظُنُّ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي لَشَرُّ الناسِ إِن لَم تَعفُ عَنّي أُجَنُّ بِزَهرَةِ الدُنيا جُنوناً وَأُفني العُمرَ فيها بِالتَمَنّي وَبَينَ يَدَيَّ مُحتَبَسٌ طَويلٌ كَأَنّي قَد دُعيتُ لَهُ كَأَنّي وَلَو أَنّي صَدَقتُ الزُهدَ فيها قَلَبتُ لِأَهلِها ظَهرَ المِجَنِّ مُوحد يدعيك بالليل البَهيم وبالتخضع والتضرع بالظلام ومن الشعر الحديث رائعة «طاهر أبوفاشا» في النجوى والدعاء: لغيرك ما مددتُ يدا وغيرك لا يفيض ندا وليس يضيق بابك بي فكيف ترد من قصدا وركنك لم يزل صمدا فكيف تذود من وردا ولطفك يا خفي اللطف إن عادى الزمان عدى على قلبي وضعت يدا ونحوك قد مددت يدا سرى ليلي بغير هدى ولا أدري لأي مدى يطاردني الأسى أبدا ويرعاني الجوى أمدا واطوي البيد طاويةً كأنى في الفضاء صدى نهاري والهجير لظى وليلي والظلام ردى فوا كبدي إذا أضحى وإن أُمسي فوا كبدا وليس سواك لي سندٌ فقدت الأهل والسندا وفي شعرنا الشعبي كثير جدًا من قصائد الدعاء والتضرع منها قول العوني: يالله يا والي على كل والي يا خير من يدعا لكشف الجليله المالك المعبود محصي الرمال الكون والدنيا وما به فهي له يقضي ويمضي قادرا ما يبالي والخلق ما تفعل بلا امره فعيله اشهد فلا غيره إله ولا لي رب سواه أخشاه وأرجي لنيله يا واجد فوق السموات عالي من سطوته كل الخلايق ذليله يا فارج الشدة بضيق الأحوال افرج لعبدك يا منجي خليله وانظر بعينك يابا الأفراج حالي فرد غريب والمصافي قليله وحيد مالي غير ظلك ظلال ذليل مالي غير عزك وسيله ومن قصيدة للشاعر محمد العبدالله القاضي يا محل العفو عفوك يا عظيم ولطفك اللي كافل كل الآثام يا سميع ويا بصير يا عليم يا قوي ويا متين ويا سلام يا حميد يا مجيد يا حكيم يا عزيز ذو الجلال والإكرام يا عطوف يا رؤوف يا رحيم جلَّ شانه ما يهام ولا يرام بنورك اللي يوم ناجاك الكليم دك سينا خرّ موسى ثم قام مُوحد يدعيك بالليل البَهيم وبالتخضع والتضرع بالظلام يسمو الإنسان حين يتجه إلى الله عز وجل.. (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرِنا رشَدا) في متاهة الصحراء سجد لربه