لقد استطاع الكتاب الفرنسيون في القرن الثامن عشر أن يذللوا نزعة العزلة وضيق أفق ثقافة القرون السابقة، تصوروا أنفسهم وكأنهم مواطنو العالم أجمع، فقد سعوا إلى التبادل الدولي للأفكار والمزيد من الإنجازات العلمية والفنية التي مهدت لعصر النهضة.. كانت الثقافة العربية مدينة للمنهجية العلمية التاريخية الأوروبية في التفكير بطريقة معاصرة فقد كانت أوروبا باعتراف النقاد والباحثين طوال عصر النهضة مستودعًا للأفكار الجديدة.. فالمنهجية العلمية الأوروبية لا تقتفي طريقًا واحدًا في التفكير باعتبار أن أوروبا تتشكل في تيارات ومذاهب فكرية وبيئات ثقافية مختلفة. فمنهجية رودسون ذات تلوين اجتماعي أكثر من منهجية رينارد لويس التي تنتمي إلى منهجية تاريخ الأفكار "ومنهجية فيلوجية تاريخية كلاسيكية لا تعتني بالمشروطية الاجتماعية الاقتصادية للموضوع المدروس وإنما تدرس الأفكار ككيان مستقل بذاته" أما منهجية كلود كاهين فهي تولي أهمية للعوامل الاجتماعية والاقتصادية أكثر من منهجية فرانسيسكو غابرييلي ذات البعد الاستشراقي.. لقد كان هنالك تواصل فكري قديم بين الثقافة الأوروبية وقادة الفكر في بيروت والقاهرة وتونس وإن كان في نطاق التبعية الثقافية. لقد صار ينظر إلى أوروبا على أنها معقل الأدب الحديث فقد عرفت أوروبا المذاهب الأدبية منتصف القرن الثامن عشر حيث اجتاحت أوروبا حركة أدبية شاملة لعبت دورًا كبيرًا في تكوين الثقافة الأدبية الحديثة وأعطت السمات النهائية للفن الأدبي المفعم بالحيوية والذي على إثره حاز على شهرة عالمية.. فقد كان الأدب الأوروبي منذ بداياته الأولى يسعى إلى وضع نفسه في خدمة الإنسانية حيث اجتازت أوروبا طريقًا طويلًا في تطورها الأدبي ووسعت من آفاق الحركة الإبداعية وكانت إنجلترا بمثابة الحقل الذي أنبت الأفكار الجديدة التي انبثقت عن بذور تكامل نضجها في المناخ الأوروبي. لقد بقيت إنجلترا - على حد رأي د. جميل نصيف - المنارة التي تتجه إليها أنظار كل المفكرين في أوروبا من أمثال مونتسكيو وفولتير ديدرو ولينك تعلم كل منهم بطريقته الخاصة واستلهموا النماذج الإنجليزية ومن اللافت للنظر أن الأدب الإنجليزي خلال هذه الأعوام جرى استقباله بحماسة منقطعة النظير لا داخل إنجلترا فحسب بل في القارة الأوروبية حيث تمت دراسته باهتمام بالغ ونشره في الأوساط الأدبية. ونظرًا للطابع التوفيقي الذي ميز الحركة الأدبية الإنجليزية عامة إلا أن هذه الحركة رغم سبقها التأريخي على النطاق الأوروبي لم تستطع أن تحافظ على موقعها المتقدم. لقد كان ذلك من نصيب الحركة الأدبية الفرنسية ويرجع د. نصيف ذلك أن الكتاب الفرنسيين البارزين في القرن الثامن عشر لم يكونوا يعانون من المحدودية وضيق الأفق وأحادية الجانب إذ لم يكونوا كتاباً فحسب بل كانوا مفكرين ومؤرخين اجتماعيين ودعاة سياسيين ومعلمين أخلاقيين لقد كانوا فلاسفة بالمعنى الاجتماعي التطبيقي. لقد استطاع الكتاب الفرنسيون في القرن الثامن عشر أن يذللوا نزعة العزلة وضيق أفق ثقافة القرون السابقة تصوروا أنفسهم وكأنهم مواطنو العالم أجمع فقد سعوا إلى التبادل الدولي للأفكار والمزيد من الإنجازات العلمية والفنية التي مهدت لعصر النهضة.. واستطاعت باريس أن تخطف قصب السبق من مراكز أخرى بارزة للثقافة والأفكار مثل لندن وأمستردام ولاهاي. فاللغة الفرنسية التي استطاعت منذ القرن السابع عشر أن تحقق انتشارًا واسعًا بوصفها لغة الصالونات الأرستقراطية تمكنت في القرن الثامن عشر من تدعيم مكانتها المهيمنة في أوروبا بوصفها لغة العلم والفلسفة. في عام 1783م طرحت أكاديمية العلوم في برلين فكرة تخصيص جائزة لأحسن بحث يكتب حول موضوع ما السبب الذي جعل اللغة الفرنسية لغة العالم أجمع، لقد كانت الجائزة من نصيب أحد الأدباء الفرنسيين الذي برهن في بحثه على أن اللغة الفرنسية لغة عقلية واجتماعية. ومع ذلك فإن التبادل الأدبي بين فرنسا والأقطار الأخرى في القرن الثامن عشر لم يكن أحادي الجانب فالأدب الفرنسي لم يكتف بأن أثر تأثيرًا واسعًا في آداب الأقطار الأخرى بل تعرض من جانبه للتأثر بهذه الآداب مستوعبًا أحسن منجزاتها في ميدان الإبداع الفني والفلسفي والعلمي. وإلى جانب تأثير آداب مختلف الأقطار الأوروبية في الأدب الفرنسي تعرض هذا الأدب في القرن الثامن عشر لتأثير واضح وكبير من جانب الآداب الشرقية فالأدب الفرنسي أظهر ميلًا نحو حكايات الشرق ومن بينها الحكايات العربية كألف ليلة وليلة. فالتبادل الأدبي الدولي كان لفرنسا دور مميز فيه ساعد على توسيع العلاقة مع الثقافة العربية.