منتهى الدهشة حينما نجد من ينبري في صفوف الحاقدين الكارهين في بعض دول الوطن العربي زاعمين أنهم يفعلون ذلك بدافع حبهم لبلادهم، يفعلون ذلك وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، فلبعض هؤلاء نظرة لا تتجاوز أصابع أقدامهم، فهم لا يعلمون أن بناءهم وبنيانهم وامتدادهم كعرب هو أبعد مما يبصرونه فيما يسمى بقصر البصر والبصيرة حتى يصل الأمر إلى العمالة والتمويل.. حينما يغترب الفرد عن وطنه، يظل هناك ذاك الحنين، فتعتصره الغربة برغم ما في تلك البلد من رفاهية، فيحن ويكتب الأشعار، ولطالما ينظر باتجاه بلاده في نوع من الشوق الأبدي مهما وصل له من رفاهية أو نعيم، فالوطن ذاك المكان الذي درج بين ثنياته يجول بخاطره وحتى في أحلام اليقظة منها والمنام. لقد كانت جداتنا حينما تحكي لنا الحكايات لم تكن لاستدرار النوم لحظة النعاس فحسب، بل كنَّ يزرعن فينا ذاك الهيام المتأصل فينا لبلادنا ولأوطاننا. كانت جدتي - رحمها الله - تحكي لي حكاية ما قبل النوم، فلا تزال تلك الحكايات تدور بخاطري حتى الآن؛ ومنها أن رجلا اصطاد عصفورا ثم وضعه في قفص من الذهب، وفرش له الحرير والديباج وأحضر له أجمل الأطعمة، لكن العصفور يغرد ليلا ونهارا بلا هوادة قائلا: وطني، وطني، وطني، لم يكن الرجل يعرف كيف يعالج هذا التغريد المستمر مما يزعجه عن الخلود للنوم، أخذ الرجل يزيد من تدليل ذلك العصفور فيزيد من تنوع طعامه وشرابه وتوسيع قفصه، إلا أنه كلما زاد تدليله زاد في التغريد بلا هوادة، مستمرا بتغريده بكلمة وطني، وطني! حينها فكر الرجل فيما هو حال وطنه الذي يفوق هذه الرفاهية التي يمنحها له؛ وحينها قرر أن يطلقه ثم يتبعه لكي يرى ما هو ذلك النعيم الذي يفوق ما حظي به هذا العصفور لديه، أطلق الرجل العصفور ثم تبعه حتى وصل العصفور إلى وطنه الذي يتغنى به، ولكن ما هال هذا الرجل أنه وجد العصفور على فرع شجرة يابسة وبلا حرير أو ديباج ولا حتى طعامه الفاخر، حينها أدرك الرجل معنى كلمة وطن وكيف يكون الحنين إليه مهما بلغت قسوته! قد نتساءل عن مكنون هذا العشق والشوق والارتباط بالوطن، وفى حقيقة الأمر لا نجد أي إجابة عن السؤال المحتوم دائما. إنه الإرث الموروث والقيمة التي ترجح بها كفة كل الموازين، ذلك الله سبحانه وتعالى قد فطر قلوب خلقه على الارتباط بالمكان، ثم عشقه له، ثم الذود عنه. إن الفرد منا قد لا يعلم أن معنى كلمة وطن بأنها طينة الفرد وتشكيل شخصيته ووجدانه، طينته التي نبت فيها ومنها، كما أسماها جل الفلاسفة المسلمين بالإنسان وطينته؛ فإذا ما تأملنا كلمة طينته تلك التي يعنيها هؤلاء الفلاسفة سنجدها تعني أرض الوطن وترابه الذي هو من رفات آبائه وأجداده، فما تلك الحفنه المقذوفة في خلقه إلا من تراب ذلك الوطن الذي هو منه، ولذا يكمن في وجدانه هذا العشق الذي لا يعرف من أين تسرب، إنها فطرية حب الوطن بلا فلاسفة أو نظريات. لماذا يتشدق البعض بعشق أوطانهم، ثم يسبونها ويسبون قادتها ويشوهون حضارتها التي ستصبح أفعالهم وأقوالهم، فهم شامة وعلامة في وجه الوطن على مدى التاريخ. منتهى الدهشة حينما نجد من ينبري في صفوف الحاقدين الكارهين في بعض دول الوطن العربي زاعمين أنهم يفعلون ذلك بدافع حبهم لبلادهم، يفعلون ذلك وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، فلبعض هؤلاء نظرة لا تتجاوز أصابع أقدامهم، فهم لا يعلمون أن بناءهم وبنيانهم وامتدادهم كعرب هو أبعد مما يبصرونه فيما يسمى بقصر البصر والبصيرة حتى يصل الأمر إلى العمالة والتمويل، نسأل الله البراءة من ذلك، ونحن هنا لا نزايد على أحد، إنما هي مجرد تساؤلات للغوص في عمق النفس البشرية وفكرة عشق الأوطان التي قد تصل إلى حمى الاغتراب أو قل الغربة بمعنى أدق! من الذي أضعف نفوس هؤلاء ومن الذي أوحى لهم بأن مجدهم في تشويه أوطانهم؟ أتذكر في هذا المقام شخصية (هيروسترات) وهو بطل مسرحية (انسوا هيروسترات) الذي كتبها الكاتب المسرحي (غريغوري غورين)، ومضمونها من التاريخ اليوناني القديم، والذي يجمع بين التأريخ والأسطورة، والتي تقع أحداثها وتحديدًا عام 365 ق.م ذلك بائع السمك المتجول، لكنه يبحث عن المجد والخلود فيحرق معبد ديانا أو أرتميدا، الشهير، أكبر معابد اليونان القديمة، وأكثرها حيوية، وأكبر معبد في التاريخ، وأحد عجائب الدنيا السبع في زمنه، ليوجه رسالة أبدية عميقة، متعددة الأبعاد، ما زال إلى اليوم يتردد صداها في وجدان الناس. حينما صدر الحكم بإعدامه لفعلته تلك، سأله القاضي عن سبب فعلته فيقول للقاضي أنت ستكسب شهرتك ومجدك ثم يفقد الناس ذلك مع الزمن، كما أن الناس ستنسى حقارة فعلتي لكنها ستظل تتذكر، المجد، كنت بائع سمك حقير لا أحد يذكرني، والآن أصبحت صاحب مجد وسيخلِّد التاريخ أسمي؛ فأنا الآن صاحب لقب حارق المعبد. هذا هو البحث عن الخلود، وعن المجد الذي يبحث عنه هؤلاء المهمشون أو الغافلون أو المضلَّلون والمضَللِون ليصبحوا متآمرين على أوطانهم. فالناس لا تزال تذكر هيرواسترات لكنها في الوقت نفسه تذكر فعلته الشنعاء وخيانته لوطنه ولتاريخه. فأصبح أنموذجا لكل هؤلاء ظنا منهم أنهم سيصبحون أبطالا قوميين، وهم يعلمون أنهم ليسوا كذلك، وإنما يتحول معنى المجد لديهم إلى معنى المال في زمن سيطرت عليه الفلسفة المادية والليبرالية الجديدة، والتي عملت على تشييء الإنسان تحت وطأة سلطة رأس المال في السوق العالمي والعولمي. إن البحث عن الخلود والمجد والمال وسلطته، هو ما يتنافى مع الوعي ويقظته، كما يتنافى مع ما تحمله حضارته العربية التي يكتسب منها اسمه فهل رأيتم إنسانا يأكل نفسه. إن الوعي العام يقع في منزلة بين ثلاث (الوعي الذاتي، والوعي الموضوعي والوعي العام) والانتقال بينهم يأتي متطورا لا يتم دفعة واحدة، فثمة أشكال لمعارف متعددة يصل الإنسان بعدها إلى معرفة الحقيقة، فهي ليست جوهرا بلا حياة وليست ذاتية خاصة، إنما هي الحقيقة التي تجمع بينها أطراف كل ذلك، ولذلك وجب النهوض بالوعي العام ومعرفة معنى كلمة وطن.