إن البطولة والفروسية متلازمتان حتميتان مع الشجاعة التي هي مما لا شك فيه حتمية من حتميات الخلود. والخلود هو ما نازع آدم عليه السلام في منبته الأصلي ولذا أصبح التوق إلى الخلود أمرا فطريا متوارثا فينا؛ وهو ماقاد إلى نظرية الذات والموضوع التي تبحث عن السعي نحو التلازم والإلتصاق؛ وهو سر من أسرار البقاء سبحان الله! وتاريخ تراثنا الشعبي مسطر بفنون الفروسية والشجاعة، ولم يكن ذلك بدافع التسلية أو ملء الأذهان بآساطير تذهب باليقين إلى مدارج الخيال! ولكنها لتربية الذهنية الإنسانية والذوق العام على كيفية البحث عن الخلود، وهو ما يجعل الإنسان بطبعه في قلق دائم عن هذا المجد مقابل الفناء. ثم جاء ديننا الحنيف ليدعم هذا المفهوم إلى الخلود الدائم وعدم الفناء بقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) الآية.. ولم يكن ذلك بالأمر الهين وهو مجد الشهادة في سبيل الله والدفاع عن الأرض والعرض. وفي هذا المنعطف التاريخي لأمتنا العربية نجد أن الأعداء تتداعى عليها كتداعي الخراف على قصعتها ولم يكن ذلك كلاما مرسلا في نشرات الأخبار للفرجة والمشاهدة وإنما أصبح أمرا على المحك كما يقال فأصبح الصراع هنا هو صراع وجود وصراع هوية ووطن وثقافة وأرض وعرض وقل ما تشاء.. فليس بخاف على أحد منا ما تدور عليه الرحى من حولنا حتى أنني أسميته في أحد مؤلفاتي الدرامية ب(حزام النار) حيث تحيط بنا ألسنة اللهب من كل اتجاه وأصبحنا الآن في حالة اختبار. ولكن أهم ما في الأمر هو هذا البطل الذي على خط النار على حدودنا الجنوبية يذود بدمه وبكل فروسية عن هذا الوطن، فكل يوم نشاهد بطولات خالدة في الجو وفي الأرض وهذه هي دماء الأبطال تصبغ تراب الوطن برائحة المسك الخالد الذي يظل يفوح مدى الدهر فإذا كان الله عز وجل قد خلدهم أحياء عنده فإن تراب الوطن سيخلدهم برائحة المسك العطرة التي لن ينقطع عبيرها على مدار التاريخ. ولكن من المحزن في هذا الوقت الراهن هذا التلاهي الشعبي عما يدور على حدودنا وعن مؤازرة ومشاركة هؤلاء الأبطال في مجتمعنا؛ ليس بالمشاعر والتباكي (والندب) والشكوى، وإنما بتجنيد كل ما آتانا الله من لغة مرئية مسموعة ومقروءة لكي نكون جميعنا في ساحة المعركة على قلب رجل واحد وليس بالرتع في التنزهات والمصايف والبحث عن قضاء عطلة صيفية، أو الانسياق في مناقشة أمور داخلية قد نؤجلها إلى ما بعد الحرب، الا يعلم الجميع أن المملكة العربية السعودية في حالة حرب تدور رحاها في خاصرتها الجنوبية كخنجر مسموم يجب التصدي له كبيرنا وصغيرنا وشيخنا وطفلنا حتى يعود أبطالنا منتصرين ونزفهم بأكاليل الغار كما يفعل اليونان والرومان في تاريخهم الذي أمتلأت به صحائفهم وبنى عليه مؤرخوهم ملاحمهم الخالدة! لم يعد الاستشهاد بين فريقين متنازعين وإنما دخل إلى دقيق عروق الأطفال، ولشد ما هزني هو استشهاد الأطفال الأبرياء في نجران وهم يرتعون في أمان في ساحات بيوتهم لا يعرفون من الحرب سوى اسمها فتغتال براءتهم تلك بقذائف همجية لا تعرف معنى الفروسية والمواجهة، فأي فروسية تغتال طفلا يرتع ويلعب في ساحة بيته وينتظر المساء الدافئ في حضن أمه بلا أي خوف أو جزع. ياسادة ليس الكلام هنا مجرد كلام أو ملء للسطور بقدر ما أصبح الأمر في غاية الدقة وعلى جميع الأصعدة والأعمار وأن نتيقن بأن اليوم ليس كالبارحة الآن وطننا يحتاج إلى كل قطرة دم وحبر وضوء إعلامي وثقافي لكي يهب الوجدان إلى ساحة الأبطال هناك وهم أسود عتاة لا يدعون للجبان ثغرة يتسلل منها، فأين نحن منهن بمقالاتنا وأشعارنا وأحبارنا وإعلامنا وحتى أهازيجنا نزف لهم كل يوم فرحة وندون بطولاتهم كل لحظة على وسائل الإعلام وفي كتب التاريخ وحتى على الضيف الثقيل (تويتر والفيسبوك). لا والله ما وجدنا هذا سوى في بعض الأنشطة والتي أستطيع القول أنها لا تكفي والمتمثلة في انطلاقة (حكايا مسك) فكم مشاهد وصلت له هذه الحكايا التي تهز الأبدان، إنها انطلاقة رائعة ولكنها محدودة الانتشار إن جاز التعبير! والذي يتوجب علينا جميعا أن تكون حكاياتنا على كل المحاور والأطر هي حكايا مسك. يقول الدكتور فوزي فهمي في روايته (لعبة السلطان) وهو قول هام للغاية "لا تهزم القلعة لقلة حماتها ولكنها تهزم إذا تساءل حماتها عن جدوى حمايتها".. لم تكن هذه الكلمات بدافع الخوف أو الاهتزاز، فنحن نعلم مدى قوة جيوشنا ومدى خبرة وبسالة قادتنا، ولكن لا يوجد انتصار بدون ظهير شعبي يعي معنى المهم ويتحمل المسؤولية ويكون فردا في هذه الساحة بكل ما عنده.. حتى الطفل في روضته؛ فالظهير الشعبي هو عماد المعارك، وسر الانتصار، ولكننا نجد الظهير الشعبي يبحث عن المتع ويقول كما قال أبو طالب حينما استولى ابرهة على ماشيته: "للبيت رب يحميه".. لا ياسادة يجب أن نعمل على ايقاظ الوجدان الجمعي فالمسألة ليست رفاهية ولا نزهه ولا (مفطحات) لا والله إن الأمر أكبر بكثير عما أنتم فيه! نقلا عن الرياض