(مَدخل أوَّلي) تنشغل المقاربة السيكولوجية لتدريس اللغات الأجنبية لغير الناطقين بها بالبحث في الاستراتيجيات النفسية للتعلم، وفي الآليات الذهنية لاكتساب اللغة. وقد تعددت هذه المقاربات السيكولوجية مؤسسة لعدة نظريات، نختار منها في سياق هذا الموضوع ما يسمى ب «نظرية الأنساق» أو «نظرية الخُطاطات الذِّهنية» (Théorie des schèmes). ظهرت نظرية الأنساق مع «فريدريك شارل بارليت» (F.C. Barlettسنة 1932م في كتابه Remembering، ثم تطورت بشكل كبير على يد مجموعة من اللسانيين وعلماء النفس. وقد وُظفت هذه النظرية في البداية من أجل التعرف على السيرورة التي يكتسب من خلالها الإنسان المعارف بصفة عامة، وعلى طريقة تخزينها وتنظيمها في الدماغ البشري. غير أن بعض اللسانيين وظفوها من أجل توضيح الاستراتيجيات المستعملة في تعلم لغة معينة سواء كانت أمّا أو أجنبية. وما دمنا نتحدث عن النسق هنا فهو يفترض تضمنه لمجموعة من الأنساق الثانوية التي تتفاعل فيما بينها بشكل وظيفي، قصد الوصول إلى اكتساب اللغة الأجنبية. وتنحصر هذه الأنساق الثانوية في نسقين اثنين: النسق الثانوي الصاعد (من الأسفل إلى الأعلى): يتم التركيز في هذا المستوى على الوحدات المعجمية الصغرى التي توجد في أدنى السُّلَّمية اللغوية (غير قابلة للتجزيء). أي أن التفاعل يتم أولاً مع الحرف، فالكلمة، ثم الجملة، وصولاً إلى الفِقرة والنص ككل. والملاحظ أن هذا النسق يشتغل باعتماد المسلمات التربوية والنفسية التي تتلخص في وجوب التدرج من الأبسط إلى المركَّب إلى الأكثر تعقيداً بشكل منهجي منتظم؛ أي الانتقال في التعامل مع أي مشكل من أبسط نقطة فيه إلى تلك التي تتلوها في التراتبية وتفوقها في درجة التعقيد، وانتهاء إلى الحيثية الأكثر تعقيداً. وعلى هذا الأساس، سيتمكن المتعلم من التعامل مع اللغة المتعلَّمة بطريقة تدريجية وتفصيلية في نفس الآن؛ وهو ما سيتيح له الاقتراب من الإواليات التي تحكم اشتغالها. النسق الثانوي الهابط (من الأعلى إلى الأسفل): وأما في هذا المستوى، فيتم عكس الآية؛ وذلك بالانتقال بشكل تدريجي من البنية النصية ككل، إلى مختلف مكوناتها اللغوية، وصولاً إلى أدنى وحدة في السُّلَّمية اللغوية. وهذا يعني أن التفاعل يتم أولاً مع النص باعتباره يظهر في المجال البصري للمتعلم بشكل شمولي، قبل أن يتم الانتقال إلى الفِقْرات، فالجمل، ثم الكلمات، وأخيراً الحروف. والملاحظ أن هذا النسق يشتغل بشكل يتوافق والطريقة التي يدرك بها الدماغ ما يحيط به في العالم الخارجي من معلومات تقدمها له الحواس؛ إذ ينظر إليها في البداية - وللوهلة الأولى - نظرة شمولية، يمكن أن نقول إنها مغرقة في البانورامية، قبل أن يمر إلى التعامل مع المكونات والتفاصيل. من الضروري التنصيص على أن هذين النسقين يشتغلان بشكل متواقت وتفاعلي؛ بحيث يستحيل أن نفصل بينهما سواء أثناء الفعل التعليمي - التعلُّمي (وهو ما يهمنا هنا)، أو أثناء السيرورة الاعتيادية للتعامل مع مكونات الواقع بإطلاق(). تؤكد هذه النظرية - كذلك - أن الأنساق التي كوَّنها الفرد انطلاقاً من لغته الأم قد تؤثر في عملية اكتساب اللغة الأجنبية: إما سلباً، ذلك أن متعلم لغة أجنبية ما غالباً ما يوظف أنساق لغته الأم في تعامله مع اللغة المتعلمة والحُكم عليها، وهذا ما يشكل عامل إضعاف لمراحل اكتسابه للغة المستهدفة. وإما إيجاباً، انطلاقاً من تفعيل أنساق اللغة الأم وجعلها في خدمة اللغة الهدف؛ ف»لقد كان المفهوم السائد في الماضي هو أن تعلم اللغة الأجنبية يجب أن يتم دون اللجوء إلى اللغة الأم، وهو المبدأ الذي تم التخلي عنه، حيث يتم تعليم اللغات الأجنبية انطلاقاً من المعارف اللغوية التي تُكتسب خلال تعلم اللغة الأم»(). * أستاذ مبرز في اللغة العربية - المغرب نبيل موميد *