لم يكن الخطّ العربي عبْر تاريخ الحضارة الإسلامية مجرّدَ وسيلةٍ لتدوين المعارف والمعلومات وحفظ الذاكرة الجماعية وتخليد المآثِر وأمجاد الأيام الخَوالي، ولم يقتصر دورُه على زخرفة المخطوطات واللوحات والمعالم المعمارية والأثاث وتزيينها وتنميقها، وإنَّما كان أحدَ أبرز التعابير التجريديّة الساميَة عن كُنْه الإسلام وجوهر الإيمان القائم على تنزيه الذات الإلهيّة والتسليم بوحدانية الخالق المالِك للحقيقة المطلقة والمتعالي على التمثيل والتجسيم وعالم المحسوسات. علينا مضاعفة جهودنا للتعريف بجواهر الخط العربي وشكّلَ التاريخُ الطويل للخطّ العربي ومدارسِه المُتوالِدة مِن الخطّ الكوفيّ رحلةً شائِقة بيْن تَعاريج الرموز المرسومة ومِعراج الروح المكنونة، وسفراً رائِقاً للبصر والبصيرة على أجنحة البهاء والسناء مِن أديم العالم المشهود إلى آفاق الكمال المنشود، في مُزاوَجةٍ بديعة بين السموّ الروحي والجَنَى الماديّ، بين الإمتاع النفسيّ والأُنْس البَصريّ، وفي أشكالٍ انسيابيةٍ طيِّعة لَدْنة يخُطّها قلمُ الفنّان كما يَصوغ الجَواهريُّ نفائس الحليّ مِن الذهب والدرّ والحجر الكريم. مثّل تسجيل "الخط العربي" على قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة "اليونسكو" حدثاً ثقافياً بارزاً واغتنى عالَمُ الحرف والكتابة بفيضٍ ثرٍّ من أنماط الخطوط التي بُنِيَ قِوامُها على السُّمْك والمَيلان، أو الابتعاد والاتّساع، أو التداخُل والاندماج، أو التلاحُم والتماسك. فتولّدتْ مِن الخط الكوفيّ الذي هو أصلُ الخطوط العربية خطوطٌ كثيرة، من أشهرها الثلثُ، والنسخ، والرقعة، والديواني. كما صُنّفت الخطوطُ بحسب أقطار المسلمين إلى حجازيٍّ وعثمانيّ وعراقي ومصريّ ومغربيّ وأندلسيّ وفارسيّ وغيرها. جهود خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد تدعم الثقافة العربية والإسلامية وتعزز من مكانة الخط العربي وقد مثّل تسجيل "الخط العربي: المعارف والمهارات والممارسات" على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، يوم 15 ديسمبر 2021، حدثاً ثقافياً وحضارياً بارزاً، أضْفَى ألقاً ورونقاً فريديْن على الاحتفالات التي شهدها العالم احتفاءً باليوم العالمي للغة العربية (18 ديسمبر). ومِمَّا نفَحَنا بمشاعر الاعتزاز والإكبار أنّ المملكة العربية السعودية هي التي قادت هذا التسجيل الدُّولي المهم، مؤكّدةً مرة أخرى أدوارها الريادية على الصعيديْن العربي والإسلامي في المجال الثقافي وغيره من المجالات. فقد تولّت المملكة عملية التنسيق العامّ لهذا الملف الثقافي الذي اشتركت في تقديمه خمس عشرة دولةً عربية أخرى، هي: الأردن والإمارات العربية المتحدة والبحرين وتونس والجزائر والسودان والعراق وسلطنة عمان وفلسطين والكويت ولبنان ومصر والمغرب وموريتانيا واليمن. كما توّجَ هذا التسجيلُ الدولي جهوداً رائدة وكبيرة قامت بها المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وسموّ ولي عهده الأمين، صاحب السموّ الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز –حفظهما الله– في دعم الثقافة العربية والإسلامية وتعزيز مكانة اللغة العربية والخط العربي. ومن بينها إنشاءُ مجمع الملك سلمان العالمي للّغة العربية، وإنشاءُ مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي، وإطلاقُ وزارة الثقافة في المملكة مبادَرة "عام الخط العربي" على مدار عاميْ 2020 و2021 بما يرسّخ التوجهات الاستراتيجية الوطنية ويحقّق أهداف رؤية المملكة 2030م، إلى جانب مبادرات أخرى سَهِر سموّ الأمير بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان آل سعود، وزير الثقافة، رئيس اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، على إطلاقها مثل تأسيس عدد كبير من الجمعيات المهنية الثقافية خلال عام 2021 على غرار الجمعية المهنية للتراث العمراني والجمعية المهنية للتراث غير المادي، وتنظيم فعاليات "جداريات الخط العربي" في عدد كبير من مناطق المملكة ومدنها. وقد انضاف تسجيل "الخط العربي"، في إطار الحركية الثقافية الكبيرة التي تشهدها المملكة، إلى ثمانية عناصر كانت المملكة سجّلتها في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي هي: المجلس، والقهوة العربية، والعرضة النجدية، والمزمار، والصقارة، والقط العسيري، ونخيل التمر، وحرفة السدو. ويطيب لي في هذه السياق أن أشيد بالتعاون القائم بين وزارة الثقافة في المملكة ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو مؤكداً عزمَنا على تقوية دعائم هذا التعاون، وفق الرؤية الجديدة للإيسيسكو ورؤية المملكة 2030، وتعزيزاً لمبادراتنا الثقافية الكبرى التي أطلقناها سنتيْ 2020 و2021، ومن أبرزها إنشاءُ مركز الإيسيسكو للتراث الذي نطمح من خلاله، بزخْمٍ وعزْمٍ نستمِدُّهُما من رؤية الإيسيسكو الجديدة ودعم الدول الأعضاء، إلى تسجيل ألف عنصر ماديّ وغير ماديّ على قائمة التراث الإسلامي بحلول عام 2025. وفي إطار اهتمام الإيسيسكو بالمَعالم الثقافية البارزة للحضارة الإسلامية، ومنها الخطُّ العربي، أطلقت المنظمةُ "جائزة الإيسيسكو الافتراضية للخط والزخارف والمنمنمات؛، كما نظّمتْ في مقرها في الرباط، المملكة المغربية، عدداً من معارض الخط العربي. وتُواصل الإيسيسكو حالياً تطويرَ برنامجها الحضاري الكبير لكتابة لغات الشعوب المسلمة بالحرف العربي، وحوْسَبة اللغات الإفريقية المكتوبة بالحرف العربي في المنطقة الإفريقية الواقعة جنوبي الصحراء. ومِن هذه اللغات التي نعمل على حوْسَبة كتابتها بالحرف العربي لغاتُ السواحيلية والفولاني والماندنكا والهوسا التي يتحدث بها عشرات الملايين من سكان الدول الإفريقية جنوبي الصحراء. وتُعبّر الإيسيسكو، من خلال اهتمامها بالخطّ العربي وما تُولِيه في برامجها مِن دعمٍ لكتابة لغات الشعوب المسلمة بالحرف العربي، عن وعيها العميق بالأدوار بالغةِ الأهمية التي اضطلع بها الخطّ العربي المُنمَّط وما زال قادراً على النهوض بها في تأمين التنوع الثقافي، وفي تدوين الإبداع الفكري والعلمي والثقافي للشعوب التي تبنَّتْه لكتابة لغاتها من الصين وإندونيسيا وماليزيا شرقاً إلى دول الساحل الإفريقي غرباً مروراً بالهند وباكستان وإيران ودول آسيا الوسطى وتركيا. فقد قطعت مختلفُ مدارس الخط العربي بعدَ بزوغ شمس الإسلام في مكةالمكرمة والمدينة المنورة مساراً طويلاً على مدى القرون زاخراً بالتطوير والتجديد، مُعبّرةً عن روح الإبداع وسِمات الشّمول والانفتاح والتنوُّع المُغْني التي ميَّزت الحضارة الإسلامية واستوعبَتْ بسرعةٍ شعوباً وثقافاتٍ متنوعةً من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً. ومِن عناصر الإبداع والتميز في الخط العربي سمةُ المرونة وخاصيةُ التنميط والتكيُّف مع مختلف اللغات التي تَبنَّى أصحابُها النظامَ الخطيَّ العربي للكتابة والتدوين. وقد أثْبتَ الخطُّ العربيّ قُدرتَه على استيعابِ أنظمةٍ متنوعة لِلُغاتٍ مختلفة من عائلاتٍ لغوية شديدةِ التباين. وتكفي هنا الإشارة إلى أنَّ الخطَّ العربي المُنمَّط اعتُمِد عبْرَ التاريخ في كتابة أكثر من مئةٍ وخمسين (150) لغةً ولهجةً متداوَلةً في قارّات إفريقيا وآسيا وأوروبا. كما اضطلع الخطُّ العربي على مدار التاريخ العربي الإسلامي بأدوار السِّفارة والدبلوماسية الثقافية، كاشِفاً لأبناء الثقافات الأخرى عمَّا تزخر به الحضارة العربية الإسلامية من خصائص فنية جمالية ومن إرث فكري وفني أَعْلى من شأن العقل والتجريد الذهني والإبداع والإلهام، كما مثّلَ هذه الخطُّ عامل جذْب لكثير من الباحثين غير المسلمين الذين سحرهم الحرف العربي بتجلياته الفنية البديعة ورشاقة رسومه وبتعبيراته عن عالم سرمديّ أخّاذٍ لا تدركه الألباب. وفي عصر التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، مِن المهمّ أن تَتوخَّى القطاعاتُ الثقافية المَعنيّة في العالميْن العربي والإسلامي استراتيجياتٍ متوازنة تَحُولُ دون الهيمنة الكاملة للتطبيقات الرقمية على هذا المجال، وما يعنيه ذلك من تهميش الإبداع اليدويّ للخطّاطين، مع تشجيع فنّاني الخط العربي في الوقت نفسه على الاستفادة من ابتكارات الذكاء الاصطناعي لتطوير إبداعاتهم الفنية ورقْمنتها وتيسير التعريف بها في العالم الافتراضي على أوسع نطاق ممكن. ولا شكّ في أنّ مِن صميم مسؤولياتنا أفراداً ومؤسساتٍ ومنظماتٍ وحكوماتٍ، في هذه المرحلة التاريخية التي تشتدُّ فيها الحاجةُ إلى تصحيح الصور النمطية المسيئة إلى الإسلام والمسلمين، وإلى تعزيز علاقات التعاون والتضامن والتكامل مع الأمم والحضارات الأخرى، من خلال الحوار الثقافي، أن نُضاعِف جهودَنا للتعريف جيداً بجواهر الخط العربي ونفائسه على الصعيد الدولي الواسع، وأن نجعل منه في استراتيجياتنا الثقافية أحد عناصر القوّة الناعمة التي لا غنى عنها في كل حوار ثقافي نَرْنو إلى أن يكون متكافئاً ومُفضِياً إلى التعارف والاعتراف المتبادَل بين الأمم والشعوب بإسهاماتها جميعا في بناء صرح الحضارة الإنسانية. وحقيقٌ عليّ، وأنا أشهَد ما تُحقّقه المملكةُ العربية السعودية من إنجازاتٍ عظيمة ونجاحات باهرة في المجال الثقافي وغيره من مجالات التنمية وبناء الإنسان وصناعةِ الغد المشرق، أن أرفعَ أسمَى عبارات الشكر والتقدير والعرفان إلى حكومة خادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وسموّ ولي عهده الأمين صاحب السموّ الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز –حفظهما الله–، وإلى وزارة الثقافة مُمثَّلةً في وزيرها المتألِّق سموّ الأمير بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان آل سعود، على ما أحرزتْه المملكةُ ضمْن رؤية 2030 مِن سَبْق مائِزٍ ونجاحٍ ساطع على درب التسجيل المشهود للمَوْروث العربيّ الإسلامي الذي يشهد بعظمة حضارتنا وعراقة تاريخنا المجيد. * المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)