تجد بعضهم يدخل حياتك وينصب نفسه وصياً عليك من منطلق فهمه الخاطئ لهذا الحديث. تجده يسدي إليك الدروس والعظات والكلمات الرنانة ويدعم كلامه بالقصص الواهية ويتحول إلى الداعية الأعظم والمتحدث الجهبذ بدعوى واحدة وهي أنه يطبق حديث رسول الله وينصحك والحقيقة غير ذلك تماماً. أولاً: الحديث: عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ) قُلْنَا لِمَنْ؟ ، قال: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)" . رواه الإمام مسلم رحمه الله في "صحيحه" (55) وأصل النصح في اللغة: الخلوص، ونَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ. والناصحُ : الْخَالِصُ مِنَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ. وَكُلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ. انظر: "لسان العرب" (2/ 615). قال ابن الأثير رحمه الله في "النهاية" (5/ 63): "النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ، هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَلَيْسَ يُمكنُ أَنْ يُعَبَّر هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَع مَعْنَاهُ غَيْرَهَا" انتهى. وقال أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "- النَّصِيحَةُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَةُ الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ ، وَقِيلَ: النَّصِيحَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ إِذَا خَاطَهُ، فَشَبَّهُوا فِعْلَ النَّاصِحِ فِيمَا يَتَحَرَّاهُ مِنْ صَلَاحِ الْمَنْصُوحِ لَهُ، بِمَا يَسُدُّهُ مِنْ خَلَلِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحْتَ الْعَسَلَ، إِذَا صَفَّيْتَهُ مِنَ الشَّمْعِ، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْلِ مِنَ الْغِشِّ، بِتَخْلِيصِ الْعَسَلِ مِنَ الْخَلْطِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: عماد الدين وقوامه النصحية، كَقَوْلِهِ: (الْحَجُّ عَرَفَةُ) أَيْ: عِمَادُهُ وَمُعْظَمُهُ عَرَفَةُ " انتهى من "شرح النووي على مسلم" (2/ 37) . * أما النصيحة لله تعالى، فقال الخطابي: "معنى النصيحة لله سبحانه: صحةُ الاعتقادِ في وحدانيته، وإخلاصُ النية في عبادته". انتهى من"جامع العلوم والحكم" (1/ 229)وقال ابن الجوزي رحمه الله: "النصيحة لله عز وجل: المناضلة عن دينه والمدافعة عن الإشراك به، وإن كان غنياً عن ذلك، لكن نفعه عائد على العبد" انتهى من " كشف المشكل" (4/ 219) . * وأما النصيحة لكتابه: فتكون بالإيمان به، وبتلاوته، وتدبر آياته، والاتعاظ بمواعظه، والوقوف عند حدوده، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. * وأما النصيحة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقال ابن رجب رحمه الله: هي "الإيمان به وبما جاء به، وتوقيرُه وتبجيلهُ، والتمسك بطاعته، وإحياءُ سنته، واستثارة علومها، ونشرُها، ومعاداةُ من عاداه وعاداها، وموالاةُ من والاه ووالاها، والتخلقُ بأخلاقه، والتأدبُ بآدابه، ومحبة آله وصحابته، ونحو ذلك". قال ابن رجب رحمه الله: "النصيحة لأئمة المسلمين: معاونتُهم على الحق، وطاعتُهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وحث الأغيار على ذلك". وأما النصيحة لعامة المسلمين: قال ابن رجب: "فأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإن ضره ذلك في دنياه، كرخص أسعارهم، وإن كان في ذلك فوات ربح ما يبيع في تجارته، وكذلك جميع ما يضرهم عامة، ويحب ما يصلحهم، وألفتهم ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه عنهم، وقال أبو عمرو بن الصلاح: النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير، إرادة وفعلا". ولنتأمل قول أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله "إرادة وفعلا" وليكف المتُشدقون عنا وليفهموا حديث النبي كما أراده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس كما أرادوه هم بسوء فهمهم للسنة الشريفة وليطبقوا النصيحة كما عَرْفها علماء المسلمين لا كما يعْرفوها هم.