حين يكبر الأبناء يستريح الآباء ويشعرون بالأمن والطمأنينة، وتحظى الأمهات عند الكِبَرَ برعاية وإحسان من قبل الأبناء الذين يبذلون حياتهم في سبيل حماية وطاعة الوالدين ورعاية الأسرة في أجواء عائلية تعاونية تقوم على قيم الاحترام والسلام والمودة المستمدة من الفطرة الإنسانية ودين الإسلام. غير أن الأسرة اليمنية باتت تتعرض لحرب خطيرة تشنها الميليشيات الحوثية الإرهابية المدعومة من إيران، مستهدفة منظومة القيم الإنسانية والإسلامية والأعراف والتقاليد اليمنية التي ترفع من شأن الأسرة ومكانة الوالدين، من خلال إحلال أفكار إجرامية وطائفية تمجد العنف والكراهية والإرهاب، مما أدى إلى تفشي جرائم القتل للآباء والأمهات على يد أبنائهم على نحو مُفزع. يظل الابن مصدر أمان للأب والأم، يبرهما ويمشي في مناكب الأرض من أجل رعايتهما، ويلتمس رضاهما ولا يقل لهما أُفٍ، ولا ينهرهما. لكن حين يتورط الأبناء ويلتحقون بدورات التعبئة الطائفية وثقافة العنف الحوثية ومعسكرات التدريب التابعة للميليشيات، فإنهم يصبحون مصدر الخوف لآبائهم وأمهاتهم، إذ صار الأب عرضة لخطر القتل على يد ابنه بعد أن بات مشحوناً بالعنف والكراهية للمجتمع والأقارب ولكل منهم حوله وفق ما يقتضيه الولاء لقيادة الميليشيات والإيمان بأفكارها الإرهابية. خلال أقل من ثلاث أعوام، شهدت العديد من المناطق الواقعة تحت احتلال الميليشيا المدعومة من إيران، جرائم عائلية بشعة نفذها مسلحون حوثيون أقدموا على قتل آبائهم وأمهاتهم وأقارب لهم فور عودتهم من دورات التعبئة أو من معسكرات التدريب والجبهات الحوثية. حصاد مرعب رصدت "الرياض" خلال العامين الماضيين أبرز 28 جريمة قتل ارتكبها مسلحون ينتمون لميليشيات الحوثي الإرهابية بحق أبائهم وأمهاتهم، منها خمس جرائم ارتكبت في شهر يوليو الجاري، أسفرت عن مصرع وإصابة أكثر من 50 شخصاً جميعهم آباء وأمهات وأقارب. أحدث تلك الجرائم، في مديرية جبل الشرق بمحافظة ذمار، إذ أقدم مسلح حوثي، يُدعى وليد محمد عز الدين، على قتل والدته في أول أيام عيد الأضحى بعد أن هرعت لمنعه من قتل والده الذي يصفه الابن بالتكفيري والعميل للسلطة الشرعية اليمنية. ورسخت الميليشيات في ذهن الجاني جملة من الأفكار والقناعات التي تحثه على أن الولاء للحوثي يقتضي البراء من عائلته وأقاربه إذا لم يؤمنوا بعقيدة الجماعة والولاية لقادتها، فضلاً عن كونه قد شارك في العديد من المعارك ضد الشعب اليمني والسلطة الشرعية، وانغمس في الدم وقتل الآخرين إلى أن بات يستسهل القتل والعنف بحق والديه وعائلته. قتل بسبب الدعاء مسلح حوثي آخر في مديرية حُفاش بمحافظة المحويت (شمال غرب صنعاء) يُدعى محمد الحرازي، أقدم خلال العشر من ذي الحجة، على قتل والده ووالدته، وهما صائمان ولأنهما دعيا على الحوثي. وقبله بأيام أقدم محمود محمد حسن، وهو عنصر حوثي، على قتل والده وفصل رأسه عن جسده بالخنجر وأصاب اثنين من أشقائه فور عودته من الجبهة التابعة للميليشيات، بسبب أن والده قال له إن الحوثيين يكذبون عليه وهو ما أثار الابن المضطرب نفسياً بسبب انغماسه في المعارك والقتل والمشحون بالعنف والأفكار الإرهابية التي تُكفر غير المؤمنين بالعقيدة الحوثية. حاولت ثنيه فقتلها وفي مايو الماضي، شهدت منطقة عتمة بمحافظة ذمار جريمة بشعة، إذ أقدم قيادي حوثي يكنى "أبو صارم" على قتل زوجته وهي أم لأربعة أطفال، وأصاب والدته "سعدية محمود" في الستينات من عمرها، بسبب محاولتهما ثنيه عن العودة للقتال إلى جانب الحوثيين. ولم يمر شهر على الجريمة، حتى أقدم مسلح حوثي آخر يدعى "خالد الرعوي"على قتل والده في مديرية بعدان بمحافظة إب، وسط اليمن، بعد مشادة مع والده الذي رفض منحه المال. أما المسلح التابع للميليشيات والقادم من محافظة صعدة، ويدعى يوسف ناجي المراني فأقدم على قتل زوجته وشقيقها يوسف السروري وامرأة أخرى في العاصمة صنعاء. وفي يناير 2020 أقدم مسلح حوثي يدعى مساعد جمال القهبري في بيت الكوماني بمحافظة ذمار على قتل والده بإطلاق النار على رأسه مباشرة، بعد أن حاول ثنيه عن العودة إلى جبهات القتال في صفوف الميليشيات. علي الحميدي، هو الآخر ترقى في سلم الإجرام داخل ميليشيات الحوثي وشارك في إحدى الدورات الطائفية التي استمرت أربعين يوماً، ومنها أخذته إلى جبهات القتال في صفوفها، وفي إحدى الإجازات الممنوحة له، عاد إلى منزله واصطدم بغضب الأسرة عليه نتيجة التحاقه بالميليشيات، وسرعان ما وجه السلاح صوب والديه وشقيقته الكبرى وشقيقه الأصغر وأرداهم قتلى جميعاً. وفي سبتمبر من العام نفسه عاد محمد علي عبدالله وصل مديرية الجراحي بمحافظة الحديدة من الجبهة مصابا باضطرابات نفسية وبمجرد حدوث مشادة بسيطة، قتل والدته المسنة ووالده وأحد أقاربه الذين حاولوا ثنيه عن جريمته. وخلال الشهر نفسه أقدم يوسف غيلان إثر عودته من الجبهة على قتل صهره وشقيقه وثلاث من بناته ثم عاد إلى منزله وقتل والدته. في الشهر نفسه من العام 2020 أقدم مسلح حوثي يدعى صبري البروي، فور وصوله إلى مسقط رأسه في منطقة عتمة بمحافظة ذمار(جنوبصنعاء) على قتل صهره ومن ثم اتجه إلى منزل شقيقه وأقدم على قتله مع ثلاثة من أطفاله، وهما فتاتان الأولى عمرها 6 سنوات والثانية 7 سنوات وطفل بعمر شهرين، وأصاب طفلا رابعا بطلق ناري في كتفه. ولم يكتف بذلك، إذ اتجه نحو منزله وأقدم على قتل والدته بطلق ناري في رأسها، وخلال محاولته الفرار اشتبك مع الجيران وأصاب 6 منهم. وفي نوفمبر 2020 عبده مجمد جابر القطري يقتل والدته نوحية محمد حسي من مديرية كشر حجة (شمال غرب اليمن) وفي 24 نوفمبر من العام نفسه أقدم صالح محمد العوش على قتل والده محمد العوش في منطقة حوث بمحافظة عمران (شمال صنعاء). ولم يمر نوفمبر حتى أقدم عيسى ردمان من أبناء منطقة الغولة بمحافظة عمران المحاذية لصعدة على قتل شقيقه كمال ردمان فور عودته من القتال إلى جانب الحوثيين، وفي منطقة ضوران بمحافظة ذمار أقدم أحد عناصر الميليشيا ويدعى "الطيري الانسي" على قتل شقيقه بعد أن حاول منعه من إجبار المصلين على ترديد الصرخة الحوثية. وفي منطقة الجبانة السحول أقدم زياد عبدالله الدرواني على قتل شقيقته أيضاً. وفي يوليو 2019 مسلح حوثي يدعى سليم صدام الحاج عاد من معسكر تدريبي تابع للميليشيات وبعدها بأيام قتل والدته طعنا بالسكين ثم حاول قتل والده وشقيقه اللذين حاولا منعه من جريمته. وبعد الجريمة بشهر واحد أقدم مسلح حوثي يدعى منصر النزاري على قتل والده بعد عودته من جبهة نهم بمحافظة صنعاء. تهمة "الولاء للشرعية" وفي سبتمبر من العام نفسه راح الأب يحيى حبشي في منطقة عنس بذمار ضحية لابنه جميل الذي أتهمه بالولاء للشرعية. كما أقدم مشرف في ميليشيات الحوثي ويدعى "إبراهيم عبدالله" ويكنى "أبو حروب" على قتل والدته "زهور صالح مارش" وهي على سجادة الصلاة في حي هبرة بالعاصمة صنعاء في العام 2019. وفي العام نفسه أقدم أحد عناصر الميليشيا ويدعى "سلطان زايد" على قتل والده في مديرية عيال يزيد بمحافظة عمران إثر مشادة حصلت بينهما حول أحقية من يملك مزرعة القات. وفي أغسطس 2018 قال عبدالله ناصر جربان إن عودته من جبهة القتال في صفوف الحوثيين كانت بهدف إنجاز مهمة خاصة "ليتضح لاحقاً أن المهمة التي عاد من أجلها كانت قتل شقيقه في عزلة بني السافل. ومثله العنصر في الميليشيا المدعو "مبارك محسن هداد" أطلق النار على شقيقه وأرداه قتيلاً على خلفية صراع على أرض في منطقة آنس بمحافظة ذمار. وبعد أيام فقط عاد المسلح الحوثي عبده صبر من الجبهة وفتح النار على والده وأرداه قتيلا دون معرفة الأسباب. مسلح حوثي هو الآخر عاد من جبهة القتال في صفوف الحوثيين إلى مديرية صعفان بمحافظة صنعاء، وتفاجأ أن خطيبته قد تزوجت فأقدم على قتل والدته وشقيقته ثم لحق بشقيقه إلى المسجد وقتله ثم أقدم على الانتحار. أما المشرف الحوثي سلطان الدوادي ويكنى أبو عزرائيل فأقدم على قتل والده بثلاثين طلقة رصاص بعد عودته مباشرة من جبهة حرض. تعبئة إجرامية على أن تلك الجرائم لم تكن انحرافات فردية، بقدر ما هي نتيجة للتعبئة العقائدية الحوثية التي تمنح هذه الجرائم شرعية ارتكابها وفعلها، بل إنها تعطي الفاعل صكا وتصف ما يرتكبه بالفضيلة وتغرس بداخل المجرمين قناعة بأن ما يفعله يتقرب به إلى الله طالما كان الضحية مخالف للجماعة حتى وإن كان الأب أو الأم. ويقول محللون يمنيون إن تفشي جرائم قتل الآباء والأمهات والأقارب في المناطق الواقعة تحت احتلال ميليشيات الحوثي الإرهابية المدعومة إيرانياً، نتيجة للتعبة الإرهابية التي تمارسها الميليشيات وتقوم على ترسيخ العنف والفكر الإجرامي وتكفير غير المنتمين لها واستباحة الدم واستسهال قتل المخالفين وربط الولاء لقيادة الحوثي بالبراءة من الأسرة والمجتمع. وتجري الميليشيا عملية إعادة صياغة للشباب ومعظمهم من شبه الأميين وعقول فارغة يتم تعبئتها بأفكار وقناعات متطرفة وإجرامية، تتضمن فتاوى تعتبر الخروج على جماعة الحوثي كُفر، ومن لم يؤمن بها فقد كفر. طاعة الحوثي قبل طاعة الوالدين كما ترسخ قناعة مفادها أن طاعة الحوثي مقدمة على طاعة الوالدين والأقارب ومن لم يؤمن بالولاية لزعيم الجماعة فهو كافر ودمه مباح، والزعم بأن الله أمر اليمنيين بتولي عبدالملك الحوثي، وهو ما يؤكده القسم المُعلن الذي يردده عناصرها علناً وفيه "اللهم إنا نتولى من أمرتنا بتوليه، سيدي عبدالملك بدر الدين". وتقوم ميليشيات الحوثي بإيهام الشباب والمراهقين المغرر بهم بأن تلك القناعات والأفكار تمثل الدين الحقيقي، مما دفع ببعض المغرر بهم إلى استباحة دماء أقاربهم واستسهال القتل وإباحة دم من يخالف عقيدة الحوثي أو ينتقدها، فضلا عن أن الميليشيات تغرق عناصرها بالمخدرات والدماء إلى أن جعلت منهم وحوشا. ويقول المحلل السياسي اليمني وائل القاضي إن جرائم قتل الآباء والأمهات والأقارب تحولت إلى ظاهرة نتيجة الانقلاب المدعوم إيرانياً والحرب الحوثية على الشعب اليمني وتعطيل القانون وأدوات الضبط القضائي وتدمير المنظومة التعليمية، واستبدالها بمنظومة طائفية ودورات تعبئة لاستقطاب الشباب والمراهقين إلى جبهات القتال. ولفت أن ميليشيات الحوثي تعمل جاهدةً لإحداث اختلال خطير في منظومة قيم المجتمع اليمني التي تردع مثل هذه الجرائم والانحرافات، وفي الوقت نفسه تسعى إلى إحلال الأفكار والقناعات الطائفية الحوثية محلها، ومنها التعبئة العقائدية والأفكار الإجرامية والعنصرية وعقيدة الولاء للجماعة التي تجعل طاعتها مقدمة على طاعة الوالدين، ناهيك عن إخراج قيم احترام مكانة الوالدين والأسرة. مشيراً إلى أن هذه الجرائم هي ترجمة وتجسيد للمنظومة الفكرية الإجرامية للميليشيات التي تنشئ عدوانية خطيرة في نفوس عناصرها.