يعلو مؤخرًا خطاب الفردانية وتضخيم الأنانية والنزعة إلى تهميش العلاقات الاجتماعية ونبذها بحجة التخلص من العلاقات الضارة! الضرر الحاصل هو تمرير مثل هذه الأفكار والعمل على تكريس مفاهيم الفردانية أو الفردية في محاولة تقويض العلاقات وهدمها مما ينبئ عن مأزق قادم يلقي بظلاله على التماسك الاجتماعي، وبوادره قد بدأت تتشكل في محيطنا الداخلي! من المؤسف أن هناك جيلًا ضعيفًا وهشًا دفعه إحباطه ويأسه وتحطم آماله إلى إرخاء سمعه لأصحاب العلاج بالطاقة، ومن سار على نهجهم من أصحاب تطوير الذات الذين ينفخونه حتى يغدو مثل كيس الهواء؛ مرة بالتفاؤل المفرط وتضخيم الأنا، ومرة بالتخيل العلاجي الذي لا معنى له ولا يقره حتى الأطباء النفسيين، تطويرهم في غالبيته «وهم» لا يحدثه عن الواقع الذي يعيش في تحدياته المستمرة! قال عن كتبهم الشيخ الأديب عبدالله الهدلق إنها موضة معرفية وارتزاق على وهن الإرادة. في ظل التشويش القائم بين العلاقات الضارة أو ما تسمى بالسامة والتي بالفعل تستنزف وقتك وجهدك، وتبقيك في دائرة الاستغلال؛ عائد لقبولك واستسلامك لا أكثر، وبين علاقاتك الاجتماعية الطبيعية التي يعتريها النقص، وأنها تمرض بالخلافات وتطيب بالاعتذار، ويلزمها مهارة تحديد المسافات لكنها في المجمل علاقة طبيعية مستقرة، الدعوة لقطع أي علاقة مهما كانت والتملص منها؛ مرجعه اهتزاز الثقة بالنفس، وانخفاض مستوى القدرة على المقاومة وتخطي الأزمات. الخطاب الداعي للفردية خطاب مستقى من الثقافة الغربية التي تقوم على الرأسمالية، وفكرة بقائها مرتبط بتفتيت المجتمعات، وتغليب المادة وتسليع كل شيء، وللكاتب جميل الرويلي معنى دقيق يصف ذلك في كتابه على خط الإنتاج يقول فيه: «في المجتمعات مصب اهتمام الرأسمالية قبل دخول الدولار إليها لا بد من القضاء على معوقات التلاعب باهتمامات المجتمع وتعطيل كل العلاقات التكافلية فيه التي تجعله أقل اعتماداً على المال. فللرأسمالية طقوس ستلاحظها، ستلاحظ انبعاث حالة من الفوضى الاجتماعية على مستوى الأفكار والسلوك يصاحبها زخم إعلامي هائل يهدف لفصل كل شيء عن الآخر ويدعو للإعلاء من روح الفردانية الأنانية والتحرر من القيود واحتقار الماضي، والانقضاض على النقاط المرجعية في الوعي الجمعي وتدميرها، وستجد أن كل ذلك يحدث بطريقة ممنهجة وخطوات يتم تبريرها بشكل دعائي ناعم». من أبرز ما يقوض تماسك المجتمعات والقيم المشتركة وسائل التواصل باعتبارها مصدر المعرفة الوحيد عند المتلقي الجاهز للقولبة حين تعزز من مفهوم الأنانية لدى الفرد، وتعمل على إظهار التقدير المبالغ للذات، وهذا استنزاف نفسي مهلك، وخلل يهدد استدامة العلاقات بسبب ما يسمى بالاستحقاق! السعي المتطرف الذي رسخه كثرة التكرار والمتابعة كانت نتيجته تغذية النفس بالمركزية، وتكريس فكرة الاستحقاق، لتبرز مثل هذه السلوكيات وتجنح بالفرد نحو الوحدة والانعزال، هذا البحث المستميت في حب الذات سيولد مشاعر كره ورغبة في التجنب، ولن تدوم العلاقات مهما كانت وثيقة. الإيمان بأنه يمكن الاستغناء عن الناس مطلب عسير لا يتأتى لكل أحد ولو سلمنا به؛ يشترط في عدم مخالطتهم اعتزالهم حتى من الوسائل نفسها، وسيكون بالتأكيد مدخل ينتهي بنا إلى الجنون! ربما كان من الأفضل ألا تحرص كثيرًا على تنفيذ مثل هذه الأفكار التي تمزق النسيج الاجتماعي، وتسعى لتمجيد الذات وإهمال ما تمليه عليك فطرتك، فما من إنسان إلا ويحتاج إلى من يقاسمه حزنه وفرحه، من يشعره بالاتزان النفسي والعاطفي، من يؤازره ويدعمه، هذا التكاتف الاجتماعي جزء من قيمنا وأخلاقنا، وأصل في شريعتنا الإسلامية المطهرة.