ساد في الفكر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين أربعة اتجاهات رئيسة في تفسير أزمة المجتمع العربي. الأول تحدث عما يسميه هيمنة النظام الأبوي العربي أو أزمة التربية التسلطية، وقد طغت الدراسات الانثربولوجية على هذا الاتجاه، وعملت على قراءة المجتمع العربي قراءة اقرب الى دراسات البنية الثابتة القارّة وغير المتغيرة، فالمجتمعات العربية وفقاً لذلك هي مجتمعات ساكنة وقدرتها على التحول والتغير بطيئة بحكم كون ثقافتها هي ثقافة سكونية. ويعد هشام شرابي الأكثر بروزاً في هذا النوع من الدراسات. أما الاتجاه الآخر فهو يعتمد القراءة"الثقافوية"التي تختلف في مدخلها وفي نهايتها، إذ انها تنظر إلى المجتمع العربي بحسب ما يظهر في خطاب نخبته الفكرية أو على مستوى الثقافة العالِمة، وتنظر بعين الناقد إلى الإنتاج العربي فكرياً وفلسفياً وأدبياً ونقدياً وعلمياً لتلحظ تحولاته واختلاف مساراته ولتقرأ من خلال هذا الخطاب حقيقة المجتمع العربي وطبيعة تفكيره وبنيته العقلية أو الذهنية التي يرتكز عليها. وتعد دراسات نصر حامد أبو زيد في قراءته للإنتاج الفكري العربي في الحقل الديني الفقهي والفلسفي والمنطقي انموذجاً على ذلك. أما الاتجاه الثالث فركز على التفسير الاقتصادي وأصبح يطلق عليهم لقب"الماركسية الجديدة"، ويبدو سمير أمين الأكثر جدية في هذا الإطار، فهو من القلائل الذين قرأوا الماركسية عربياً في شكلٍ مختلف مكّنه من تطوير آليات ومفاهيم جديدة تمكن من توظيفها في الحقل المعرفي العربي. أما الاتجاه الأخير فعمد إلى قراءة أزمة المجتمع العربي على أنها أزمة سياسية اجتماعية تبدأ جذورها مع بداية تكوّن الدولة العربية ونشأتها في مطلع القرن العشرين. ويُعتبر برهان غليون الأكثر مساهمة في هذا المجال، إذ إنه يقرأ هذه الأزمة في أوجهها المختلفة. أين يمكن وضع كتاب"مأزق الفرد في الشرق الأوسط"الصادر عن دار الساقي في لندن، بين هذه الاتجاهات الأربعة، إنه بلا شك يحمل قولاً مختلفاً، إذ يراهن على أن"ثقافة أشد اعتناءً بالفرد، وأكثر حفولاً بالفردانية، ثقافة أكثر نهياً عن الانتحار القاتل للنفس والآخرين، وبمعنى أكثر تعميماً - كما يضيف حازم صاغية معد الكتاب وكاتب مقدمته - يجوز الافتراض بأن درجة أعلى من الحرص على الفرد ومصلحته، هي درجة أدنى من الحماسة للعنف وأيديولوجيات العنف المستشرية". يطمح الكتاب إذاً، الذي ساهم فيه كتّابٌ من دولٍ عدة من الشرق الأوسط شملت دولاً عربية وإيران وتركيا وسواها، إلى قراءة أزمة المجتمعات في الشرق الأوسط، وفقاً لعلاقتها بالذات الفردية، أو بالأدق مدى حضور ثقافة الأنا الخاصة لا الأنانية في ثقافات هذه المجتمعات. هكذا يتقاطع الكتاب كثيراً مع الاتجاه الانثربولوجي في تفسير أزمة المجتمعات العربية عندما يعمد إلى تحليل أمثالها الشفوية وكتاباتها المقروءة، لكنه وفي الوقت نفسه يتقاطع مع الاتجاه الثقافوي حين ترد بعض الدراسات أزمة غياب الفردانية إلى مئاتٍ من السنين خلت، وكأننا اليوم لسنا إلا أسرى تلك الثقافة التي حفرت فينا بعيداً. ولا تبتعد بعض الدراسات الأخرى عن تحميل الدولة العربية التحديثية مسؤولية الأزمة وبخاصة أحزابها الثورية والجماهيرية التي ألغت الفرد بل وسحقته. الكتاب إذاً يستحضر المدارس في معظمها، لكنه لا يقف عندها، وهو مصدر الجدة فيه، وذلك عندما يصادم فكرة شائعة ورائجة في المجتمعات العربية تقوم على ضرورة تعزيز الثقافة الجماعية وثقافة العمل المشترك والاندماج بالمجموع بغية التخلص من الفردية، فبذلك يتأسس العمل وينتج. يقدم الكتاب منظوراً مختلفاً يرى في تعزيز الفردانية حماية لها واستفادةً للمجتمع من إبداعات هذا الفرد عبر احترام خصوصيته. لكن الكتاب الذي ضم مشارب عدة تغيب عنه فكرة موحدة للفردانية التي يطالب بها، بل تكاد دراسات يناقض بعضها الآخر في ما يتعلق بهذا المفهوم تحديداً. فصاغية ينظر الى الفردانية على أنها تعزيزٌ للخيارات الفردية، وفي أحسن الأحوال فإنها تعزز وتعتق الفرد"، كما أنها لا تظهر إلا مع الحداثة وبفضلها، فالمجتمع الذي ينوجد فيه أفرادٌ من دون مفهوم الفردانية هو مجتمعٌ يفتقر إلى الخيار وإلى الحرية، ويقول:"ليس من الضروري أن تترافق الفردانية في المجتمعات"غير الأوروبية"كمجتمعاتنا بعلمنة يعقوبية مباشرة ومفروضة من فوق، وعلينا تشجيع ثقافة الفردانية في مختلف دول الشرق الأوسط، وللتشديد على مواطن الضعف في مجتمعات هذه الدول، وعلى التقدم الاجتماعي التدريجي الحاصل والحاجة الماسة إلى تطور أشد جذرية". لكن المفهوم ذاته الذي يبدو عند صاغية واضحاً تبدو تعبيراته لدى بعض الكتاب الآخرين ملتبسة. فالإيراني رامين جاهانبغلو يتحدث عما يسميه"فردانية ديموقراطية"وهذه تتأسس على السياسة المحض وليس على تمفصل السياسة مع المجتمع كما هي عند صاغية. ولذلك تبدو"النزعة الفردانية الديموقراطية"متحققة لدى سياسيين إصلاحيين كما يصفهم جاهانبغلو، أولئك الذين سمحوا للصحافة بحرية النشر وأطلقوا سراح المعتقلين السياسيين وأتاحوا للمرأة أن تختار بنفسها بين الحجاب والسفور. أما الفردانية لدى مراد بلجه التركي فإنها تجد تحققها في كوجيتو ديكارت الذي أسس للفردانية، ويمضي في قراءته على أساس قراءته لتحولات المجتمع التركي باتجاه الغرب الذي لا يتحقق مفهوم الفردانية بمعناه الحديث إلا لديه. أما حسين أحمد أمين فكان أقرب إلى التأملات مع إدانة للثقافة العربية في صيغتها الشعبية، تلك التي تمتد جذورها إلى ما قبل الإسلام ناسياً دور الدولة الحديثة في قولبة المواطن وفق صيغ معممة وواحدة، وبالتالي فالمواطن المصري يبدو أكثر تأثراً بالنمط السياسي والاجتماعي الذي يعيشه من رواسب النمط الثقافي الذي يدعي أمين أنه يستبطنه. ويصل الاضطراب أقصاه في دراسة خالد المبارك عن الفردانية والسياسة في السودان، عندما يخلط بين الديموقراطية كممارسة سياسية والعلمانية كمفهوم عقائدي والفردانية كحال اجتماعية لتصبح مطالبه في النهاية أشبه بالشعارات التي من شأنها إن تحققت أن تلغي الفردانية ذاتها. فكرة الكتاب فريدة ورائدة ولكن لم تساعد كل الدراسات ربما على بلورة هذه الفكرة المهمة وتوضيحها. كاتب سوري.