كرَّستُ مقالاتي الأَخيرة في "الرياض" لمعارج الشعر والنثر، وكيفية إِنقاذ القصيدة والنثيرة من الطارئين عليهما، المتوسِّلين اللغةَ أَداةَ تعبيرٍ إِيصاليةً لا غايةً إِبداعية. مَن ذا يتولّى جعْلَ اللغةِ غايةً في ذاتها لا مجرَّد أَداة؟ طبعًا ليسوا اللغويين، ولا مُحَنَّطي المجامع اللغوية. إِنهم الشعراء. وحده الشاعر يجرؤُ في ثقة. وجرأَتُه رؤْيا تُنقذه من التقليد البليد والترديد المديد. الشاعر يقارب اللغة بحنان جَمّ: ينتقي منها أَنقى الأَلفاظ وأَبهى التعابير وأَرقى الكلمات، يُلْبسها أَصفى التراكيب، فتستسلم لرؤْياه ويروح يستولدها جديدًا من صُلْبها لا هجينًا، ومن قياساتها وأَوزانها لا مستهجَنًا، فيَدخُل جديدُه شرايينَ اللغة عروقًا تَسري فيها بعده نُصوصُ الكتَّاب والشعراء فتتكرَّسُ دُرْجةً تتعمَّم. الشاعر عرَّافُ شعبه. له الرؤْيا ولشعبه الرؤْية. ظَلَّ دانتِه 18 سنة (1303 - 1321) يكتُب مُطوَّلته الشعرية "الكوميديا الإِلهية" في لغة توسكانا، حتى إِذا أَصدرها راح النقَّاد يرجمونها لأَنه تخلَّى فيها عن اللاتينية وكانت عصرئذٍ لغةَ الكنيسة وسائدةً في كل أُوروپا. وكان جوابُهُ واحدًا ذا ثقة: "هذه لغةُ المستقبل". وفعلًا: عندما انفجرت اللاتينية وتشظَّت لغاتٍ محليةً (فرنسية وإِسبانية وسواهما) تبنَّت إِيطاليا لغة "الكوميديا الإِلهية" فأَصبحت هي اللغةَ الإِيطالية. هو الشعر إِذًا: يفرض اللغة الأَرفع والأَسطع، فتصبح الكتُب الشعرية مراجع وُثقى لاعتماد تراكيب أَو عبارات أَو جوازات. وغالبًا ما يفتتح كتابٌ شعري عظيم نهضةَ بلاده فتتأَرَّخ به، و"إِلياذة" هوميروس رمزٌ ساطع. وهو الشاعر إِذًا: يجدِّد اللغة فيُحتذى مثالًا يُقتدى به مرجعًا، لأَنه في شعره نحَّاتُ كلمة، وفي نثره شاعرٌ أَكثر، "يهندس" نثيرتَه كما قصيدتَه، فيرفع النثر من العادي السردي إِلى المنقَّى المصفَّى مثلما يلتمع بيتُ شعره بوَمْض الجمال. من هنا أَن النثر فضيحةُ الشاعر إِن لم يتْقِنْهُ جماليًّا كشعره، وفضيحةُ ناثر "يرتكب" الشعر فيسقط في النظم غيرَ جدير بمقاربة حرَم القصيدة وحُرمتها. استعملتُ فعل "يهندس" وأَقصدُه تمامًا. فالشاعر يُمَوْسِق كلماته في دقة أُعجوبية، في "هندسة" جمالية بالغة المعايير، كالعطَّار في تركيبه مقاديرَ العطر، كالصيدلي في تركيبه معاييرَ الدواء، كالمهندس في تركيبه مقاييسَ البناء. لذا تخرج القصيدة كاملة المعايير والمقادير والمقاييس، فيُبنى عليها لإِغناء اللغة بما "هندسَه" الشاعر في تركيب قصيدةٍ يكون نحَتَها بأَعذب الموسيقى وأَصفى التعابير وأَنقى الكلمات، لا تَشوبُها لفظة ذابلة دخيلة، ولا تَدخلُها عبارة مكرَّرة مستهلَكَة ذليلة. فما كلُّ كلمة من القاموس تستحقُّ شرف الدخول في القصيدة. بلى: الشاعر عرَّافُ شعبه وحارسُ لغته. وما أَهنأَهما به حارسًا رائيًا وعرَّافًا رؤْيويًّا.