شكلت التحولات العصرية والتغيرات الجديدة والانفتاح على مختلف الثقافات تأثيراً واضحاً على معظم الأعمال السردية، وفي مقدمتها الأعمال الروائية التي بات معظمها يقدم منتجاً ثقافياً ومعرفياً، يرتقي بالرواية العربية من الرواية التقليدية في تصوير الشخصيات والأماكن والأزمنة، إلى رواية حافلة بمختلف مظاهر وفنون الأدب الأخرى. ورواية «سيرة حمى» للكاتب خالد بن أحمد اليوسف التي صدرت عن «مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع»، إحدى هذه الروايات العصرية التي تناولت قضية جديدة نابعة من روح العصر، تدور أحداثها حول جائحة كورونا التي كان لها النصيب الأكبر في تسلسل أحداث وقائعها وتفاصيلها الصغيرة والهامشية من خلال شخصياتها المحورية الحاضرة الناظرة الشاهدة لأحداث الجائحة. كما يحيك «اليوسف» نصه الروائي المهيمن عليه الجانب التوثيقي، متنقلاً بين منطقتي نجد والحجاز، راصداً وواصفاً عدداً من المعالم التاريخية والجغرافية والأثرية، وفق حبكة أدبية متميزة ومنهجيات تقنية تعبيرية تعددت فيها الأصوات ومستويات اللغة وفضاءات الأزمنة والأمكنة بأبعادها التاريخية والتراثية والأسطورية. يصور الكاتب تلك المحنة التي عم بلاؤها أرجاء العالم بأكمله، من خلال تنوع الأحداث والأفعال وتوالي المشاهد، مستعرضاً بشكل تدريجي وعبر نتوءات متن الرواية مجريات الأحداث اليومية والحراك الاجتماعي، والحالات الوجدانية القلقة الممتزجة بعلامات الخوف والهلع المتنامي بين أفراد المجتمع، مما أضفى على النص مناخاً دلالياً أكثر عمقاً لأحداث الجائحة، وما أفرزته من تغيير في نمط الحياة بشكل عام، وانعكاساتها على العادات الاجتماعية التقليدية بشكل خاص، مستنطقاً بعض الأعراف والمكنونات الثقافية والصراعات الوجدانية ذات البعد الدلالي. جسد الراوي أبعاد العلاقات بين الشخصيات والصور المخفية المحاكية للأحداث والوقائع في مشاهد تصويرية متنوعة، فعلى سبيل المثال، عند تقديم بعض حكايات الأساطير القديمة التي لم تزل عالقة في عقول الناس، تتجلى قدرة الكاتب في ربط الجانب التخيلي بالجانب الواقعي المتشكل داخل منظومة العمل الروائي. وكذلك عند الوقوف على بعض الأماكن التراثية والمواقع التاريخية في محافظة (الطائف) التي تسبب المد العمراني في اختفاء معظم ملامحها، أثار الراوي خيال المتلقي -من خلال هذه الصور- من قراءة وتيرة التسارع في مسيرة التنمية الحضارية. وبين جماليات التصوير الفني وجماليات التوازن بين الخطابات السردية المتنوعة ومساحات الأجناس الأدبية المتجانسة مع الأحداث، يأتي عمق البناء الروائي المتين، ليكشف عن قدرة الكاتب المعرفية بالوصول بفكرته دون إخلال أو تكلف، خاصة عندما نستشعر صراع التحول الحضاري، وفانتازيا تاريخ المكان المستعاد عند الاستطراد والتذكر والحديث عن المواقع التاريخية والأثرية وتتبعها بمحافظة (الطائف) وبلورة أبعادها الجمالية وحكاياتها التاريخية وفق منظور الفن الروائي، مع القدرة على معالجة عدد من الجوانب؛ ومن بينها المظاهر الاجتماعية السلبية، والجوانب النفسية التي تتكشف بشكل جلي بعد إصابة ابطال الرواية بفايروس كورونا، وتصاعد وتيرة الألم النفسي، الأمر الذي أوجد بعداً آخر للعقدة، وساعد على تنامي أحداث الرواية المتشعبة. «سيرة حمى» تعد من وجهة نظري إحدى المنجزات الروائية العربية المتقدمة، التي جمعت بين البنية العميقة للنص، والصياغة السردية التي مكنت النص من احتضان مختلف الفنون الأدبية وتجاوز قاعدة «صفاء الأجناس الأدبية»، الأمر الذي من شأنه الإسهام في تطوير التجربة الجمالية لنسق الكتابة الروائية، وفتح أفاقاً جديدة للتجديد في كتابة الرواية وتطوير عناصرها.