(1) الرواية/ استهلاك النشر قارب العقد الثاني من عمر الرواية المحلية (الحديثة) على الانقضاء، ودور النشر في الداخل والخارج لا تزال تمارس عمليات إنتاجية تراكمية هائلة لمؤلفنا الروائي، الذي وسم بتلك الصفة (الروائية) تجاوزًا أو تهاونًا أو استهلاكًا أو قدرًا لدى العارفين (ببواطن الأمور السردية الخالصة)! وبالطبع فإن ما حفز تلك (المصانع) الروائية يقين أربابها بالكسب المضمون من وراء اقتحام هذه الأعمال الأدبية لتابوهات مجتمع غامض، مما شجع في اللحظة ذاتها مشاعر قابعة مستكينة لدى شخصيات مهمومة - بيننا- على الظهور بوحا ورفضًا واعترافًا وانتقادًا لمفارقات واقع لا بد من كشفه وتعريته بطريقة الذات المقهورة، التي يهمها بالدرجة الأولى أن تفضي بمكبوتاتها المعقدة بأسرع وقت ممكن، وعلى أي طريقة / رواية كاااانت! (2) أطياف الرواية الخالصة وبنظرة منصفة في الأثناء ذاتها فإن ثمة أعمالا روائية كتبت بقدر مقنع من الوعي بفن الرواية وتقنياتها المفعمة، فهي إما روايات خالصة بالفعل، أو أنها تحوم حول حمى الرواية على أقل تقدير.. ولعل (رجاء عالم) تمثل الأنموذج الحقيقي للفن الروائي السعودي، إذ النص لديها ليس وسيلة - فقط- للتعبير عن مكنونات الوجدان الثائر فحسب، وإنما هو احتفاء خالص بالرسالة الأدبية نفسها.. الرسالة التي تكتسب قيمتها من ذاتها.. من بنائها وعلاقاتها وتقنياتها وثيماتها الخاصة، وليس من خلال ماتصرح أو توحي به، بل إن ذلك التصريح الدلالي أو الإيحائي- على مستوى المضمون- في أعمال (عالم) يتوازن بانسجام متسق مع اللعبة الروائية واللغة القابعة في لجة لحظة شعرية إشراقية صوفية. كما أن (تركي الحمد) بشروط الرواية الواقعية التاريخية (الفلسفية أحيانا) يعتبر مثالًا إيجابيًا آخر لإنتاج رواية محلية ذات كينونة فنية متحققة، إذ إن أعمال (الحمد) تخدمها حصيلة معرفية وافرة، ووعي خالص بحركة التاريخ وتأثيراته على البنى الاجتماعية، كما أنها تنطلق من إدراك عميق بالواقع ومتغيراته. وهناك صوب العوالم الخفية يبرز (عواض العصيمي) ساعيا بوعي جاد لولوج فضاءات بكر، بحثا وراء لحظة منسية وصوت غائب ورائحة نادرة وطقس لايتكرر. ولا شك أن كاتبا بتجربة (يوسف المحيميد) القصصية ووعيه (الخاص) بتعقيدات الرواية بما- يمتلكه من حس سردي خالص وثقافة روائية مؤكدة- يمثل قيمة نوعية أخرى في هذا المشهد الجميل. ومن هناك.. من أقاصي الذوات الاجتماعية المتشظية يظهر شبح (عبده خال) ليثير إرباكًا محببا على المشهد برمته. (3) مكامن الضعف يبدو أن الأسباب التي أفضت إلى ذلك الجدب الفني في رواياتنا تتمحور كلها في سببين رئيسين (بتشكلات مختلفة) أولهما: قصر ومحدودية الرؤية للعوالم الروائية خاصة، وللحياة الانسانية عامة بمظاهرها المتنوعة. وثانيهما: فقر الأدوات الفنية والمعرفية، والذي ينتج أعمالا حكائية غاية في البساطة على مستوى الصياغة التقنية غير المتفاعلة- بشكل أو بآخر- مع مرجعيات ثقافية، وسياقات معرفية ونصوص أدبية شتى. (4) تداعيات [أول] الأسباب .. هي رواية (لا أخلاقية) تلك التي لا تقدم إدراكا فلسفيا جديدا للكون والانسان والحياة، هذا ما يردده أحد المهووسين بالرواية إبداعا ونقدا.. ميلان كونديرا في لحظات روائية خالصة. ولكن معظم الروايات المحلية تنبثق من زاوية ضيقة مسطحة منغلقة دائما على ذاتها، بدون أدنى ارتباط بالموضوعات الكونية والانسانية الأخرى، ليتحول الكثير من تلك الأعمال إلى ما يشبه الوثائق والتقارير الصحفية الاجتماعية، التي تدور في مثل تلك الآفاق الحسية الضيقة، بغير أن تتجاوزها إلى آفاق كونية أرحب، وتساؤلات وجودية أعماق تتجاوب فيها أصداء الحياة والموت وأسرار الطبيعة. وربما أن الذي قاد الوعي الأدبي لذلك الفقر الروائي الذهنية الجمعية التي اعتادت الاستسلام للحقائق الثابتة منذ البداية، والنظر إلى كثير من الآفاق المطلقة على أنها تابوهات محرمة لا ينبغي خوض غمارها (تماما)، في تماه تام مع المفاهيم الجاهزة، وارتهان ابدي لنظرة ماضوية، وبقاء مستمر على حدود الأطر المبتذلة المألوفة. كما أن الوعي التاريخي للذات المنتجة أفضى إلى مزيد من انحسار هذه الرؤية للأشياء والوقائع والموجودات، إذ الوعي المنتج للابداع دائما هو الذي يتحقق عن طريق إعادة تشكيل العلاقة مع الزمن الماضي، باستحداث علاقة جديدة بين التاريخ والانسان.. علاقة تستند على (كون) الانسان هو الفاعل ذاته للتاريخ والتغيير وإحداث الأثر. الروائيون الحقيقيون هم الذين يستغرقون في آفاق علوية تنطق بقضاياها الكبرى، للكشف عن تحولات الظاهرة الانسانية وعلاقتها بموضوعاتها المصيرية: الحب والحياة والموت، بروح الاندهاش الأول الذي يشعر به انسان ما- بقلق وتوتر- وهو ينظر إلى الموجودات حوله لأول مرة، فيعبر عنها بعد ذلك بذات الشفافية والصدق الذين تمت بهما الاستجابة النقية الاولى لتلك اللحظة الكونية الغامرة بالخصب والدهشة، ولعلنا نلمس هذه الآفاق الروائية لدى كونديرا.. كازانتزاكس.. ماركيز على سبيل المثال في آثارهم التي لا تتكرر. وبالطبع فإن الرواية المحلية تبتعد كليا عن الأطياف الفلسفية العلوية لأنها- كما قلنا في نثار سابق- تنحصر في ثلاثة أنواع سردية (الرواية الرومانسية الشعرية- الروايةالواقعية التاريخية- الرواية الاجتماعية). ومع ذلك فهل لنا أن ننظر- ولو على سبيل التطلع- إلى رواية (شرق الوادي) لتركي الحمد بكونها رواية تتضمن كثيرا من أطياف فلسفية.. هل كان (سميح االذاهل) في الرواية يرمز إلى بحث الانسان المضني عن المطلق الأبدي؟ ويتزامن مع تلك الحدود العلوية التأملية الضيقة محدودية أخرى على مستوى رؤية يوميات الحياة بشخوصها الكائنة، فليس ثمة جديد ومغاير، لتبقى الشخصيات الناهضة برواياتنا متواطئة مع الوعي المشترك الذي يتوقعه ويعرفه القارئ مسبقا. وربما يعود سبب تلك البساطة إلى بساطة الحياة ذاتها التي يعيشها كتاب مثل تلك الأعمال، أو افتقارهم للنظر إلى الحياة من زوايا متعددة إنسانية وفلسفية وجمالية. لم تكن الرواية لدى معظم روائيينا تقول «ان الانسان أكثر تعقيدا مما تظن».. ذلك القول الذي أخلص له منذ البدء بلزاك (مثلا) وفلوبير، ثم مارسيل بروست الذي لطالما كان يسير في رحلة (فنومولوجية) حاسمة وراء جوهر الانسان وعلاقاته مع ماضيه تحديدا. وبالمقابل فإن ذلك الفعل السردي لم يكن موضع دهشة الهائل كافكا الذي كان دائما ما يطرح ثيمة تساؤلية مختلفة حول إمكانات الانسان التي ستبقى له، في عالم باتت فيه الأسباب الخارجية ساحقة ومادية ومتوحشة على السواء. (5) تداعيات [ثاني] الأسباب أما عن مخرجات السبب الثاني (الفقر الفني المعرفي) فهي كثيرة (بلا شك)، فالأماكن السردية التي تجول في دروبها حكايات معظم الروايات السعودية تكون بمثاية المسارح/ المنابر الجاهزة التي تجهز بسرعة، لتصعد عليها الشخصيات المنمذجة المؤدلجة (إياها) لإذاعة بياناتها الاجتماعية وعواطفها الوجدانية، بدون اهتمام بفكرة إعدادها فنيا، لتلائم سمات الشخصية المتحركة في إطارها.. لذلك فقد اصطبغ الفضاء الروائي بسمة التشابه المبتذل، فيمكن أن ينتقل المنبر المسرحي- المعد منذ البداية- نفسه إلى كثير من الروايات دون أن يغير ذلك من الأمر شيئا. وبعد.. فإن ذلك الفقر أفضى بالرواية السعودية إلى بساطة أخرى على مستوى الصياغة الزمنية التي ظلت رهينة الزمن التراتبي المألوف الذي ينبغي- للروايات الحقيقية- العمل على تغريبه واللعب به، بحثا وراء شكل جديد لصيغة حياة جديدة أرادها بيرسي لوبوك مبكرا في كتابه الأهم (صنعة الرواية)، ليتابع الشكلانيون بعده ذلك الاشتغال الفني بتمييزهم بين المتن الحكائيhistorie، والمبنى الحكائي discours` الذي يعول عليه كثيرا لإبراز القيمة الفنية الجمالية للأعمال الروائية، من خلال تداخلات الزمن استباقا وتذكرا، أو إبطاء التراكم الحدثي بالأوصاف والتداعيات الحلمية، وامتزاج النسيج الروائي بنصوص معرفية وأدبية اخرى. إذ الزمن المعتمد في الخطاب الروائي هو موقف ذاتي من الزمن وليس الزمن ذاته. وإضافة إلى الزمن الواحد في الرواية المحلية فإن ثمة (واحدية) أخرى على مستوى الصيغ السردية، حيث تتكفل شخصية واحدة أو سارد عليم ما بصياغة كل أبنية السرد ودلالاته، ليبرز مع تلك المحدودية البنائية في أسلوب السرد صوت المؤلف الحقيقي، فضلا عن عدم تفاعل هذه الأعمال مع نصوص أدبية وسياقات معرفية متنوعة، كأننا نصغي إلى لحن واحد بفكرة واحدة متكررة، لا تستطيع معها الحكاية تجاوز ذاتها لإقامة تعددية (بوليفونية) منسجمة باتقان. (6) الرواية/ الحلم القريب وأخيرا.. فبالتأكيد فإننا سوف نعيش اللحظة الروائية الخالصة قريبا.. مع قرب انقضاء الحاجات النفعية التي لطالما تحملتها ونهضت بها رواياتنا المحلية على حساب نفسها وحقيقتها الخالصة. [email protected] - جدة