لئن كانت رحلة الإنسان مع الكتابة تمتد إلى آلاف السنين، راكمت خلالها تقنيات مركبة من أدوات التعبير اللغوي، فطبعت الذاكرة البشرية بطريقتها في التخزين والاستدعاء، وكوّنت آلياتها المتميّزة في التخيّل والتصوير فان أبناء القرن العشرين مارسوا تحولاً جذرياً في خبرات الكتابة، نجم بالدرجة الأولى نتيجة لاكتساح الفن السابع - السينما - وابتلاعه الفنون السمعية والبصرية السابقة عليه. امتصّ بعض الكتاب الذين يتميّزون بحساسية رهيفة، وقدرة على التكيّف مع المعطيات الجديدة، أدوات التعبير البصري السينمائي وأخذوا يوظفونها بمهارة لافتة في إعادة تشكيل لغة السرد، بطريقة تعتمد على المخيلة الباصرة الموازية لعين الكاميرا، حيث تترجم الحركة الخارجية تجاه التفكير الداخلي في ما قبل النطق، وتفسر استراتيجية المعنى بعده. والميزة التي يستثمرها هؤلاء الكتاب أنهم إلى جانب امتلاكهم أدوات التعبير اللغوية يضيفون إليها لغة إشارية جديدة تفوقت في عمليات الاستحضار، لدرجة ظهور واقع جديد، لا يقل في بداهة وضوحه، ولا في جمال تفاصيله وصفاء معالمه عن الواقع الذي كان وحيداً قبل ابتداع هذه اللغة. لقد تم إدراج مراتب أخرى من الواقع في الوجود بفضل السينما ولعبتها الزمنية في حياة الإنسان. وعندما تمتصّ لغة الكتابة تقنيات هذا التحضير المرئي لأحداث كانت متخيّلة ثم أصبحت منظورة، فإنها تضاعف من قدرتها التعبيرية من دون تنازل عن مظاهر الدهاء اللغوي التي اكتسبها الإنسان طوال تاريخه. معنى ذلك أن الأسلوب السينمائي في السرد الروائي أبلغ من السينما ذاتها لاحتفاظه بكفاءة التعبير المجازي الذي ما زالت الكاميرا تحبو في مدارجه، وهو بالتالي أشد تركيباً وقوة من الأسلوب التقليدي في السرد، لأنه يوظف لتسجيل الوقائع وإعادة توقيعها أدوات مرئية لا نظير لها، إنه خطوة متقدمة في تضافر جماليات الفنون. وقد اختار صنع الله ابراهيم - صاحب الأسلوب السينمائي التسجيلي المتميّز في الرواية العربية - أن يكون افتتاح روايته "بيروت... بيروت" في الطائرة المتجهة إلى العاصمة اللبنانية. لكنه بتحديد الأمكنة والأحداث والشخوص بدقة توثيقية شديدة، بل لا بد له من تحديد الزمان لتحقيق الوقائع وترتيب دلالاتها. لكنه لا يريد أن يتبرع بالمعلومات من طريق الراوي المحيط بكل شيء علماً، فقد أودعه مع الأساليب القديمة. يريد أن يسوق من الظواهر التي تقع عليها عين الراوي - في موازاة عين الكاميرا اللاقطة التي تقترب رويداً من "الكادر" - ما يموقع الإطار الزمني للسرد. عندئذ يكون من الضروري أن تمر المضيفة من الطائرة بالصحف اليومية، وتقع عين الراوي على النصف الأسفل من الصحيفة فتشغله موضوعاتها التي يمكن أن تنسب إلى حقب كثيرة، لكنه عندما يمر بنظره على النصف الأعلى منها يقترب مكبّرا المانشيت والتاريخ اليومي الدقيق للأحداث. يكتب مصوراً اللحظة: "بسطت الجريدة فطالعني عنوان كبير نصّه: قرارات حاسمة بوقف إطلاق النار في بيروت الغربية. بحثت عن التاريخ فوجدته السابع من تشرين الثاني نوفمبر 1980 م وهو تاريخ اليوم". لن ننشغل الآن بتحليل مضمون النبأ، ولا أسبابه الفاجعة العشوائية التي تشير إلى استشراء العنف الدموي الذي يتفجّر في لبنان لأتفه الأسباب، يكفي أن نتذكر في هذا الصدد أنه يتصل بمشاجرة عادية بين سائقي سارتين - تقدم أحدهما الآخر - كان من نتائجها تفاقم عمليات الانتقام حتى أدت - حسب النبأ - إلى قتل الشاعر كمال خير بك وابنة أخته الشابة ناهية بجاني في منزل بشير عبيد أحد زعماء الحزب القومي، لكي نتصّور الأداة التقنية التي تمنح الكتابة منبعها المعلوماتي المباشر في فوريته الساخنة، محوطة بالسياقات التاريخية الضرورية، لتوضيح المعنى عبر الوسيط الإعلامي، حتى لتصبح حركة العين في قراءة الصحيفة إعادة تكوين عكسي لحركة الكاميرا وهي تسجّل المشهد البصري بمعطياته التشكيلية واللغوية في الزمان والمكان معاً. ولعل الخاصّية المحورية للأسلوب السينمائي - كما يتجلى في هذه الرواية - أنه سرعان ما يتبلور أمامنا فيه نوعان من البيانات التي تتدفق على الصفحات: - أولهما: بيانات إعلامية، مروية عن وقائع وحقائق وأحداث، على لسان الشخوص أو في صفحات الصحف أو الإذاعة أو التلفزيون. ومع أن لها قيمة توثيقية مباشرة إلا أن تكدسها من دون إيقاع مضبوط، أو تنظيم فني محكم، يمثل عبئاً على جسد الرواية، أو سمنة مفرطة، تعوق حركتها وتبهظ قلبها، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بالفصل السابع من الرواية الذي يقدم فيه الراوي ملخصاً تاريخياً لجذور الحال اللبنانية وتحولاتها. وثانيهما: يتمثل في بيانات جمالية مذابة في شرايين السرد، تتحول إلى طاقة دينامية فاعلة لضمان حيويته وحركته، وتتجلى عبر الملامح النفسية والاجتماعية، وهي تتكشف في الأفعال والاستجابات" أي في علاقات متجسدة يبرز معناها من دون ثرثرة، في لفتات الوجل والتأمل والانفعال، والشبق والحنين، أو الخداع والتكتم، في لمسات اليد، أو تقطيب الجبهة أو لذة المغامرة، في ما يجسّد إنسانية الإنسان ويكشف عن فطرته أو تناقضه. عندما يتحول كل ذلك من فعل فردي إلى لمحة تصويرية تبني وعينا بالحياة وإدراكنا الجمالي لمكوّناتها الجوهرية. إن البيان الجمالي هو الذي يكشف لنا عن ذواتنا ونحن نتلقى فعل الآخرين، يضاعف من إدراكنا ونحن نتأثر ونستمتع، ونختزن خبرة رائقة بالوجود، عبر مصفاة شعرية تحيي فينا أقوى ظواهره وأبقى مشاعره. وربما كان هدف الكاتب من تكثيف النوع الأول من البيانات لا يعدو أن يكون الوصول إلى تهيئة المتلقي لاستقبال اللحظة التي يتعايش فيها مع البيانات الجمالية، لكن نجاحه يتوقف على ضبط التعادل وحفظ الإيقاع بين الطرفين، وهو ما يحرص عليه صنع الله ابراهيم في روايته في معظم الأحوال. قد تكون هذه البيانات الجمالية مرتبطة باللغة، لا بمضمونها ومحتواها ومعلوماتها، وإنما بطريقة نطقها وخصوصية لهجتها، واختيار كلماتها ونبرة أصواتها. مثلاً يقدم لنا الراوي "المذاق" اللغوي للإنسان اللبناني المتوسط عبر السائق الذي يحمله من المطار إلى الفندق، خصوصاً عندما يعمد الراوي نفسه إلى مجاراته في اللهجة لتوليد شعور الألفة المحببة لديه، فيقول له مثلاً: "إنك لا تعرف شوارع بيروت منيح" فيفسر ذلك بأنه قادم من الجنوب، مضيئاً بذلك الحركة السكانية للمدينة. وتتجلى هذه اللهجة ذاتها بدرجة أقل في خطاب صديقه المصري "وديع مسيحه" المقيم في بيروت، فهو يستخدم الأمثال اللبنانية عند مشاهدته في المقهى الأنيق لزوجة الناشر "عدنان صباغ" لميا وكانوا في ذكرها فيقول: - "إذا جبت سيرة الديب، لازم تحضّر القضيب". وكان بوسعه أن يستخدم المثل المصري المقابل، المعتمد على السجع أيضاً: - "جيبنا سيرة القط، لاقيناه جاي ينطّ". لكن اللحمة الإنسانية لا تتجلى في لغة الرواية إلا بهذه اللبننة المقصودة بطرافتها ودلالتها، خصوصاً لأنها تكمل طابع الخصوصية المميزة للمكان. فوديع يصور المقهى لصديقه بعبارات سريعة تجعله أيقونة مصغرة لبيروت كلها في الوعي العربي: "صاحبه فنان ونصف سياسيّ، وهو يقدم الوجبات الخفيفة والخمور والأخبار والمعارض الفنية. وإلى هنا يأتي ثوار المقاهي واللصوص، والمنفيون والعشاق، والقوادون واللوطيون والسحاقيات والجواسيس". هذا الزخم من الأوصاف والأنواع والتناقضات هو الذي يصنع عجينة المقهى/ المدينة، وهو الذي يحدد شخصيته وخصوصيته، لكنه صامت، ممسوح في هذه الكلمات من الخارج فحسب، فإذا ما ضجّ بالكلام، وتحول إلى النطق كانت اللهجة البيروتية والأمثال اللبنانية، وحركات الرجال والنساء، وأوضاع المالك والمترددين على المكان، كان كل ذلك ينهمر في تيار واحد، هو الذي يشكل البطانة الوجدانية لاستجابتنا الجمالية لهذا الخطاب الكلي. وكما اعتبرنا الفصل السابع نموذجاً للبيانات الإعلامية، حيث يحكي فيه الراوي قصة التكوين الطائفي والطبقي للشعب اللبناني بسرد تاريخه في القرن العشرين بالحقائق والاسماء والارقام، مبرراً ذلك في سياق من الرواية بأنه جمع لمادة توثيقية لكتابة تعليق سردي على فيلم سينمائي مصور، فإن الفصل الثاني الذي يطرح فيه الراوي سلسلة المشاهد السينمائية التي تعتبر مقدمة الفيلم، يمكن اعتباره نموذجاً لنوع آخر من البيانات الجمالية، ذلك أنه يعتمد على تتابع الصور في منظومة يتجسد فيها موقف الراوي من الخارج مستحضراً شروط السينما التسجيلية في الاعتماد على اللافتات لتكوين السياق. ونعتبرها بيانات جمالية خاصة لتكوينها من إشارات مركبة من الأشكال والصور والألوان والكلمات، يحتاج المتلقي إلى ترجمتها في مضمون متّسق، يختلف مستواه ونوعيته باختلاف وعي المتلقي ودرجة ثقافته وقدرته على الاستجابة الكلية. وإن كنا سنلاحظ في ما بعد أن هذه البيانات ذاتها ستفقد قدرتها الجمالية وكفاءتها الدلالية بالتدريج كلّما تقدمنا في المشاهد التالية من الفيلم التسجيلي ذاته، لكن الجزء الأول منها يستثير في المتلقي جملة من الإيحاءات القوية، عندما يتم تقديم "سيناريو" مركز له بهذه السطور: "شبان في ملابس عسكرية سوداء، وقبعات كبيرة من اللون نفسه، يسيرون بخطوات منتظمة في أحد الشوارع وهم يصيحون: "هان دوى، هان دوى أي واحد اثنان بفرنسية الشارع اللبناني ملصقات بأحجام مختلفة، تحمل صوراً فوتوغرافية لزعماء لبنان. عنوان يملأ الشاشة: أمراء لبنان". قارئ هذه الإشارات يترجمها إلى شكل بصري وسمعي، ليستخلص منها عدداً من المعاني والدلالات، تتوقف على مدى وعيه بتاريخ الكتائب اللبنانية. كما أن شعوره تجاهها يختلف باختلاف موقعه الأيديولوجي" أي أن نوعية الاستجابة للمعلومات الحركية واللونية واللغوية لا تترجم إلى مفاهيم موحدة لدى القراء، بمقدار ما تثير لديهم من تعاطف أو نفور أو حياد. وبقدر ما يدخل فيها من تفاصيل الملامح الدقيقة للوجوه والإيقاعات والنبرات والحالات المتنوعة للضوء والظلمة واللون والتشكيل والحركة" إذ إن البيان الجمالي بطبيعته الفنية شديد التركيب وإن كان بالغ الاتساق، يؤدي دوره في تكوين التجربة بمستوياتها العقلية والوجدانية في الآن ذاته. هكذا تعتمد "بيروت... بيروت" على ما يمكن أن نسميه تقنية الأنساق المتوازية. فالراوي يحكي وقائع رحلته وعلاقاته في بيروت، بإيقاع سردي طبيعي، يتمحور حول المناوشات الأنثوية والسياسية، ثم يرصد مشاهد الفيلم التسجيلي الذي طلب إليه أن يكتب تعليقاً عليه. وتكمن المفارقة في هذا التوازي بين النسقين، فليس لأحدهما اشتباك منظور بالآخر في معظم الأحيان، سواء كان ذلك بالتوافق أو التضاد. لأن المشاهد التسجيلية - التي يفترض أنها ذات أصل بصري في صور الفيلم - نتلقاها بالقراءة، وتقوم اللافتات المكتوبة بدور الراوي الذي يوجه الانتباه فيها، ومع أنها أثارت فينا استجابة جمالية في البداية، غير أنها سرعان ما تفقد هذا التأثير بالتكرار والإلحاح على استراتيجية دلالية واحدة. إذ يبدو أنها تفقد كفاءتها الدرامية بالتركيز على أحادية المنظور. تصور الحق كله في كفة واحدة، بحشد آلاف الصور والمشاهد من دون فراغ أو ثقوب تسمح بالتمثل الواعي والتفهم الوئيد لمبررات الاطراف كلها. والطريف أنه عندما يرصدها الراوي الرئيس لا تكاد تغيّر شيئاً من خبرته أو سلوكه، فهو لا يزال يمضي عفوياً في خطته لاقتناص النساء من دون أن يهتز له جفن. كما أنها لا تقوى على تمثيل التجربة كلها من داخلها، تظل مجرد صورة توثيقية على شاشة مقابلة. يلعب التوازن بين هذين النسقين دوره في توليد شعور التباعد لدى المتلقي، خصوصاً للتضاد الحاد بين ازدحام صور الفيلم من ناحية، وتمطيط حالات الراوي الممتدة من ناحية أخرى وتأخر الاشتباك بين الطرفين إلى الفصول الختامية في نهاية الأمر. منظور المستقبل لا شك في أن صنع الله ابراهيم كان يتميز بجسارة تجريبية فائقة عندما أقدم على الإمساك بجمر الأحداث اللاهبة ليسجل رؤيته للحرب الأهلية في لبنان إبان احترام صراعاتها. فقد كتبها، كما يثبت في النهاية خلال الفترة من نيسان - أبريل 1982 إلى كانون الاول - ديسمبر 1983، وأدار أزمنتها المحكية والمسجلة خلال الأعوام السبعة السابقة، فهو إذاً لم يستوعب عالمها كله، ولم يكن قد شهد ختامها حتى يسارع بتقديم منظور كلي لها. وعندما نعيد قراءتها اليوم بعد قرابة عشرين عاماً على كتابتها فإن بؤرة اهتمامنا تتحرك بعنف من الحاضر إلى الماضي الرجراج الذي لم تكن صورته قد ثبتت في شكل نهائي. وإذا كانت عملية القراءة بطبيعتها كما أثبت نقاد جماليات التلقي تقتضي تحرك بؤرة التوقع خلال متابعة النص، فإن الازدواج في النسق السردي للرواية يقدم نموذجاً آخر لحراك البؤرة بين طرفين متضادين" أحدهما يقع في الحكاية الروائية والثاني يتجسد في الفيلم التوثيقي. كما أن البؤرة كانت تنتقل أيضاً من بيروت إلى القاهرة في سياقات خاطفة عبر المسارين، مما يجعل إقامة ضفيرة دلالية منسجمة من هذه الأطراف تتطلب مجهوداً تأويلياً من القارئ. أي أن تجربة القراءة توازي تجربة الكتابة وتعيد إنتاجها. لكن واقع الأوضاع العربية في لبنان وفلسطين ومصر خصوصاً بعد هذه السنوات لا يلبث أن يدخل إلينا في طريقة وعينا الآن بهذه الإشارات، مما يجعل تشابك العوالم والتحامها في أفق موحد يطوي الأزمنة والأمكنة، ويعتصر الأحداث والوقائع قافزاً على حاضرها الروائي، فتقع قراءة اليوم في قلب المستقبل قبل أن تتكيف مع معنى التاريخ المسجل. إعادة القراءة لا تعني بعث الأشجان المنسيّة بقدر ما تؤدي إلى إنعاش الروح وتقطير الوعي. تعني الإنصات إلى قلب بيروت وهو يلهث خلف هذه البؤرة المتحركة من الرؤى والمواقف والدلالات. نشارف على نهاية الرواية، بعد أن نخضع لوابل من الصور، سواء في الفيلم التسجيلي الدامي أم في السرد الحكائي المحتدم، وهي متنازعة بطبيعتها، حتى تمسح عين الراوي/ الكاميرا ساحة الشهداء في بيروت ونتأمل ما يستوقفه قبيل اختطافه: "طفت حول الساحة بحثاً عن زقاق به بائع الكتب الأجنبية المستعملة، تعاملت معه في زيارتي السابقة. وولجت زقاقاً قام عند مدخله حانوت للسجائر والصحف والمجلات، واجتذب بصري ملصق كبير الحجم على الحائط المجاور للحانوت، يتألف من صورة فوتوغرافية مكررة مرات عدة للجزء الأعلى من امرأة عارية، أحاطت بذراعها الأيمن رأس رجل عارٍ انحنى بفمه فوق أذنيها، كان شعرها مبعثراً حول رأسها وقد فرجت شفتيها وأغمضت عينيها، وأعطى تكرار الصورة الإيحاء بهذه اللحظة الممتدة المتجددة". الراوي لا تعنيه دلالة الاعلان المباشرة، لا يرى منه سوى ما يريد أن يراه في بيروت دائما، وهو يتركز في أمرين: البحث عن الكبت، لا ننسى أن مبرر وجوده في المدينة هو على وجه التحديد البحث عن ناشر لبناني لكتابه المفعم بمشاهد الجنس وهجاء النظم السياسية العربية كافة. بيروت في مقلتيه بيت الثقافة العربية المتحررة، هذا مركز الثقل في رؤية الكاتب للمدينة، وهو بيت القصيد أيضاً في ما يحدث لها من دمار، هي أنثى غاوية، تفرج شفتيها وتغمض عينيها وتعطي للرجل وعداً بنشوة ممتدة متجددة. لقد توقف عشاق بيروت، من الشعراء عند أنوثتها، لا ننسى نزار قباني وحلمي سالم، لكن الراوي السردي يقول ذلك بطريقته، بدقة ملاحظته لإعلان ملصق على الجدران، وهو يرتقي من مجرد تفصيل بصري صغير ليصبح أيقونة للمدينة في منظوره. لكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه في ختام هذه القراءة المرجّعة لعمل كان منغمراً في الآني الراهن لدرجة أنه لم ينتظر نهاية الحرب حتى يكتب عنها، هل تتيح لنا هذه القراءة تأمل مدى صدق العمل في استبصاره للمستقبل وقد أصبح ماضياً؟ هل تؤدي إلى اختبار كيفية تشكيله لأجنّة الغد وهي تتخلق في رحم الغيب عند الكتابة؟ لقد أجّل صنع الله ابراهيم احتداماته الدرامية كلها للصفحات الأخيرة من روايته، حيث تم التقاء الخطّين المتوازيين في السرد، اختطف الراوي من قبل القوة المناقضة له في أيديولوجيته، وإن كان ذلك بالصدفة. تفجر الاحتكاك الفكري المباشر بينهما في حوار مركز دال، أفرج عنه بما يشبه المعجزة لتدخل الظروف لمصلحته من دون قصد، لكنه أيضاً قام بتعرية صديقه المصري الذي استضافه بكرم في بيته، كشف تظاهراته البريئة وخيانته المستترة منذ أن جمعهما المعتقل في الوطن، وقدم له برهاناً ملموساً على علاقته بالأجهزة السريّة هنا وهناك، وإن كان قد آثر مسامحته وعدم لومه. وعندما بذلت له "لميا" فاتنته نفسها في نهاية الأمر بعد أن راودته على نشر كتابه لعرب اسرائيل طوق عنقها في فعل ساحق يمتزج فيه الشبق البالغ بالعدوانية المرعبة، حتى إذا أنقذت رقبتها من يده وفرت هاربة كان معنى ذلك استحالة الحب بين كل هذه الأطراف المتناقضة. لم تحقق بيروت للراوي ما كان يصبو إليه ثقافياً ولا شخصياً، شيء واحد هو الذي اكتمل في الرواية، تسجيل ما يحدث في الفيلم التوثيقي وتضفيره بالأحداث الشخصية. ومع أن الرواية لم تكن قد تمت فصولها حينما نشر عمل صنع الله ابراهيم، ولعلها لم تتم تاريخياً حتى الآن بعد قرابة عقدين من الزمان إلا أن ما أشارت إليه بإلماح مرهف من ضراوة الصراع القومي وهيمنة التحالف الأميركي الصهيوني وإخفاق مسعى المثقف اليساري على الصعيد العام والخاص، كل ذلك يمثل علامات لافتة على الرؤية التي تجسدت عبر تصميمها وتقنياتها وثغراتها الدلالية الواضحة. * ناقد وأكاديمي مصري.