ستبدأ هذه القراءة بالوقوف على هذه المرثية في النقاط التالية: * تجديل الذاكرة في المكان: وهذا الأمر تجلى في كثرة الأماكن التي جاءت في نص الحميدي؛ ولم يكن هذا التعداد عبثا؛ بل كان لاستحضار حضور المرثي في المكان؛ وكأنه ما زال يجدلها؛ أي يتقوى وجوده فيها بعد رحيله والقوة حاضرة في المعنى المعجمي لكلمة (جدل) كما هو واضح في متابعة معناها المعجمي في لسان العرب. * مسار رحلة الحميدي: وهذا الأمر لم يكن عبثا من الحميدي بتعداد مسار رحلته من (الشروط) مسقط رأس الثبيتي مرورا بالطائف التي ترعرع فيها وصولا إلى مكة مثواه الأخير ومقر وظيفته التي عاش فيها آخر أيامه؛ فقد استثمر الحميدي مسار رحلته من شذا ثقيف إلى الطائف ليضع في كل موقف موقد الذكرى التي توقد جذوة الشعر وجذوة الذاكرة؛ فهو يقول مؤكدا على ذلك: هذي مرابع مكرمين السبالا حيّر على ديرة هوازن مخليك ما هي بديرة من حجار ورمالا حلّ بروابيها نهارك وليلك حتى تفيض بقدرة الله تعالى! وديانها وآبارها في محيلك وإن كان عن غيبة محمّد تسالا أنا تراني من سؤالك دخيلك! * تخليق السردية في النص: مع أن الحميدي شاعر بامتياز إلا إنه في هذا النص وجد في السرد بغية له على تحقيق غايته من النص وكأنه يسرد في النص حياة فقيده ويتلمسها في كل مكان عبره؛ ويستعيد وجود الراحل في كل واد ومعبر؛ ومع استعادة المكان تأتي استعادة نص الثبيتي؛ فهو من مطلع النص يستعيد قول الثبيتي (كريم يانو بروقه تلالا) وكأني به يعني أن تكوين قصيدته تبدأ من مطر الثبيتي؛ ولذلك كثرت في النص الكلمات الخاصة بالمطر مثل: مطر - برق - رعود - سيل، وكثرت أسماء المسميات التي يحتاجها المطر مثل: وادي - بئر - محيل - مسيل. * (علوم الديرة) والحميدي ابن بادية؛ فقد وظف خبرته لخدمة نصه، وكأني به يسرد علمه لمستخبرين يسألونه عن علمه؛ لينقلب الحميدي على سوالف الديرة السطحية ويحيلها نبتا وخصبا جديدا في مرابع محمد الثبيتي. ولعل قوله في النص: هذا عبق شيحك وهذا نخيلك؛ (عراف رمل البيد هذا سبيلك) يجلي هذا الأمر بوضوح؛ فهو ليس سارد علوم خبرية؛ وإنما مدون علاقة حب وعشق كيف لا وقد أصبح محبوبه الذي يتعانق معه شعريا وفكريا مرثيا؛ والحاضر بين يديه ليست إلا أطلاله؛ ما أظن أننا نتوقعها سردا عابرا؛ ولذلك قال في آخر النص: والريح بحبال السما ترتقي لك ما عاد اسمي الارتحال ارتحالا بعد رحيل أمي وابوي ورحيلك. كم أشجيت قارئك يا مبدع هذه المرثية على رحيل الثبيتي ورحيل العلائق الوثقى بين النص وبين الكلمة بعد الراثي والمرثي؛ مع الدعاء بطول عمر الراثي، يعيش ويظل ذخرا لنا معنيا بإنعاشنا بتفاح الكلام. محمد الثبيتي عالي القرشي