ماذا تبقى من شاعرية محمد الثبيتي؟ هل ينبغي لنا طرح مثل هذا السؤال؟ هل لا يزال مؤثراً في التجارب الشعرية للأجيال التي تلته؟ وهل فعلاً كان مؤثراً في الشعراء السابقين عليه كما عبّر بعض النقاد؟ ولماذا هو من دون سواه من الشعراء حظي بمكانة شعرية عالية؟ الإطلالة على تجربة الثبيتي تعني في الوقت نفسه النظر إلى تجربة جيل الثمانينات، محطاتها، لحظاتها الرئيسة، رموزها الذين ترسخوا في الذاكرة. إذاً عندما نطرح سؤالاً حول الثبيتي فنحن نتوسل إضاءة إلى مجمل المعترك الشعري الذي برز في الثمانينات، من دون أن يعني ذلك تمييزاً لشاعر من دون الآخر. مثلُ ديوان"التضاريس"أفق التجربة الشعرية للثبيتي، ولامس حدود الشعر القصوى، هذا الديوان الذي صدر عن نادي جدة الأدبي، بخط الشاعر الجميل، وتداوله الشعراء والمهتمون كتعويذة سحرية، وأضحى مرآة الشعر الحداثي في السعودية، وإحدى لحظاته الأساسية. لمناسبات عدة، منها مرور سنوات ليست قليلة على صدور هذا الديوان، حصول الشاعر على جائزة"سوق عكاظ"، أيضاً عودة الشاعر إلى معترك الشعر والثقافة، مشاركاً في أمسيات أدبية، ومدلياً بأحاديث صحافية وتلفزيونية، تطرح"الحياة"تساؤلات حول تجربة الشاعر الثبيتي، كيف يقرأه اليوم الشعراء الجدد؟ وكيف يقوّمون مجايليه من الشعراء وسواهم؟ محمد العلي: مؤثر في الشعراء لكن ليس في نفسه كان الثبيتي طاقة هائلة مؤثرة في جيله، وأعتقد أنه مازال يؤثر في غيره، لكنه لا يؤثر في نفسه. أثر الشاعر الثبيتي في من حوله وامتد تأثيره ليشمل السابقين عليه، لامتلاكه لغة إبداعية جديدة رائعة، خصوصاً لغة غيداء المنفى. لغة متجاوزة ومستفزة على التجاوز، لكن هل استمر الثبيتي في تجاوزه ذلك؟ أعتقد أنه توقف. إبراهيم الحسين: شاعر أثر فيّ الثبيتي من أهم شعراء المملكة الجميليين الذين أثروا فيّ وفي الجيل، وتأكد لي مدى تأثيره عند حضوري إلى مهرجان الطائف، فهناك بدى التأثر الكبير في لغته وأسلوبه بين الشعراء، ولا أستنكر عليهم ذلك، لأن بعدها تفرز وتوضح الشخصية الشعرية لكل شاعر. أثر الثبيتي في الشعراء الذين جاؤوا بعده، الذي يمكن أن يجعله مؤثراً بشكل مباشر، هو أن يستضاف وتقام له الأمسيات حتى يتعرف عليه، لكن على رغم أهميته كشاعر لا يحظى إلا بأمسيات قليلة إن لم تكن نادرة. إبراهيم زولي: معجم الصحراء لم تكن تجربة محمد الثبيتي غريبة الوجه واليد واللسان. ولم تكن نبتاً شيطانياً، بل جاءت تنامياً للمراحل السابقة على"التضاريس"بدءاً من"عاشقة الزمن الوردي"، مروراً ب"تهجيت حلماً تهجيت وهماً"،"أتيت أركض والصحراء تتبعني.. وأحرف الرمل تجري بين خطواتي". كان الثبيتي ينزع من البدء لخلق معجم شعري خاص به، وهو معجم الصحراء، متكئاً على مفردة تراثية. هذا المزج بين اللغة المعجمية في سياقات حديثة مع تنوع الإيقاع العروضي من المتدارك والمتقارب."أدر مهجة الصبح/ صب لنا وطناً/ في الكؤوس"، والطويل"ألا قمراً يحمرُ في غرة الدجى"، والكامل كما في الأوقات"فإذا المدينة شارع قفر"، والرمل"مدناً في ساعديك... واحفظ العمر لديك". إذاً لم تكن فرادة الثبيتي قادمة من فراغ، إنه يتمثل التراث العربي والإنساني"واطو أحلام السليك"، و"وجه ذو القرنين عاد مشرباً بالملح والقطران"، يتمثله على المستوى الإيقاعي أو اللغوي، وحتى الأسطوري، كل ذلك مهد له خوض التجربة الجديدة بأقدام راسخة. لذلك جاءت تجربة التضاريس مختلفة لغة ورؤية، إذ احتفى بها النقاد احتفاءً قل نظيره. كان نموذجاً للكثير من تنظيرات ودراسات النقاد آنذاك، الأمر الذي جعل الكثير من شعراء الثمانينات والتسعينات يتلقفون هذا النموذج. اسهم النقاد في ذلك كثيراً، على رغم حضور مجايليه في تلك المرحلة، كالصيخان والحربي والألمعي وغيرهم، غير أن الثييتي كان منجزه الشعري في متناول الجميع، حاضراً في جميع المكتبات، في الوقت الذي كان فيه الآخرون لم يصدروا ديواناً واحداً أو أنهم أصدروه، ولكن خارج الحدود. هذه الملامح وغيرها هيأت لتجربة الثبيتي أن تمدَ ظلالها على كثير من نصوص شعراء المرحلة. بعدها توقف الثبيتي إلا من نصوص قليلة، نتيجة كثير من المتغيرات التي أصابت التجربة عموماً بانكسارات وإحباطات متوالية، ليعود ب"موقف الرمال"متزامناً مع استعادة المشهد الثقافي كثيراً من عافيته، إلا أن تجربته الأخيرة لم تنل حظاً من الاحتفال كما يليق بشاعر في قامة الثبيتي، لأسباب لا يتسع المجال لذكرها. عبدالله الوشمي: أحد آبائنا أنا شخصياً باركت لنفسي أولاً ب"عكاظ"وبالجائزة، لأنها أعادتنا إلى وهج الشعر وانتمائه إلى ترابنا، ثم هاتفت محمد الثبيتي، وقلت له مبارك للشعر، أقول هذا لتعزيز فكرة العودة إلى الشعر، والانحياز إليه بدرجة رئيسة. أما محمد الثبيتي، فهو أحد الآباء الشعريين لنا، وحين يتحدث المصريون عن دنقل، والشاميون عن نصر الله، والعراقيون عن سعدي، فنحن نتحدث عن الثبيتي، وربما تحمل هذه الرؤية نوعاً من الاختلاف، لكنها الرغبة في البحث عن الأب. محمد الثبيتي شاعر ولد ولادة قيصرية من هذه الأرض، فعانت في ولادته ما لم تعانه أم، ولذا جاء ليكون أكبر البررة بها، وكان حقاً له وعليه أن يظل موجوداً في قائمة عشاقها، وأنا لذلك لا أستطيع أن أفهم خريطة الشعر السعودي من دون تجربته وجيله، ولذا فإنني أشعر أن مقاربة نصوصهم يجب أن تحضر في مستويات عدة، ومنها المستوى المدرسي العام والجامعي، واللافت أن تجارب هؤلاء الشعراء مطروحة للدراسة والمقاربة في جامعات العالم إلا لدينا، لأنَّ الرؤية الأكاديمية تشترط في بعض الرؤى وفاة الشخصية المدروسة أو اكتمال تجربتها، ويغفلون عن رؤية جدهم الأمدي، الذي يُصرح بأن"العمل ليس على نية المتكلم، وإنما على ما توجبه ألفاظه"، فمشروع الثبيتي الشعري ما زال قابلاً للدراسة الأكاديمية، ونفير النقاد إليه. شفيق العبادي: نحات اللغة السؤال الذي نحتاج إلى طرحه، لماذا استأثر الثبيتي بالمساحة الوافرة من الرقعة الإبداعية؟ وفي رأيي أن الثبيتي حقق الشرط الإبداعي، من خلال أمور عدة أولها حساسيته الشعرية المبكرة التي نحت منها خريطته الشعرية الجديدة. والسبب الثاني يتمثل في عدم استعارته ملامح أخرى، إضافة إلى إيمانه الشديد بطفولته الفنية التي تمثل هوية كل المبدعين. وفي الوقت الذي تأرجح فيه المنحى الإبداعي للآخرين، ظل المنحى الإبداعي للثبيتي في مسار صاعد، فالتضاريس التي بدأها في الثمانينات كلبنات فنية، بدأت خطوطها المعمارية في الاكتمال، وتطورت إلى لغة أشد خصوصية لا تشير إلا إلى الثبيتي. عبدالله السفر: شعرية لا يتجاوزها الزمن إن حصول الشاعر محمد الثبيتي على جائزة سوق عكاظ الثقافية وإعادة طبع ديوانه، يأخذ دلالته من تصويب خطأ أو خطيئة اُرتكبت بحق الثقافة المحلية، حين حُكِّمَ في أمرها الخطاب الدوغمائي ذو الحدّ الواحد الذي لا يحتمل لوناً آخر، ويسارع بتجريمه ونفيه ورجمه، وتُركَتْ له المساحة يمارس عنتَهُ وعنفه القولي الذي لا تستطيع أن تفرّق بينه وبين العنف الفعلي، فالنتيجة واحدة بمحصلة الإلغاء والإعدام. إعادة الاعتبار للثبيتي هو اعتراف ليس بمكانة الشاعر وإمكان الاستحقاق، ولكن اعتراف بمكوِّن ثقافي أصيل جرى استبعاده وتهميشه، على رغم أنه قام بدور كبير، وقدّمَ إسهاماً فاعلاً في صنع الحداثة الشعرية في السعودية. إن شعريّة الثبيتي ليست مما يتجاوزه الزمن، ويصح عليه حكم الأقدميّة والتقادم. ذلك أن إسهامه لم يكن في التاريخ وفي الذاكرة، بل في الحضور الحي والمستمر، كتجربة فنية متقدّمة. صحيح أنه لم يحصل لها انعطافة أو نقلة أو تغيير بفعل الجو الثقافي المسموم في زمن الثمانينات والتسعينات، غير أنها في مداها الذي حققته، تظل منجزاً قابلاً للقراءة والاستعادة، لأن هذا المنجز لم يكن لحظة تاريخية وحسب، بل لحظة فنية تمتلئ أكثر إذا قُورنت بلحظة عقلانية لم تُستوعَب في وقتها، هي سرُّ سطوة القصيدة ذاتها حين تتحرّر من الزمان والمكان، بفعل عوامل نجاح داخلية، تمنحها الوهج والاستمرارية، ومن أسرار نجاح قصيدة الثبيتي المزج العجيب ما بين الإنشاد وجماليّته، وبين الخيال وما فيه من خروج وسحر. أحسب أن قصيدةً مثل"التضاريس"أو"التغريبة"أو"الأسئلة"، ستبقى حاملةً لقيم فنية قابلة للتجدّد والتوسّع، وإعادة التقليب في تربتها الخصبة، بما يمنح المتلقي شيئاً جديداً على مستوى الفكر أو الشعور. أما على مستوى البروز أكثر من مجايليه، فهذا حكم قيمة وسلّم تراتبي لا أميل له. كل شاعر من شعراء تلك الفترة مثّل حساسيّة فنية مختلفة لها متذوّقوها. وبالرجوع إلى مدوّنة تلك الفترة نجد أن الكل لم يكن بارزاً وحسب، بل ساطعاً ومشعاً"محمد الثبيتي ببابليِّة يتجرع كأس النبوءة، وعبدالله الصيخان بحبة قلبه صاعداً إلى مفاتيح الأشياء، ومحمد جبر بفتاة الليل تطلع من صبح الهواء. حبيب محمود: قصيدته لم تقرأ بعد تظل تجربة الثبيتي تحمل خصائص القصيدة القادرة على البقاء والتألق زمناً طويلاً. وحين نحاكمها بحكم موقعها التاريخي، ونُجري هذا الحكم، فإننا نكون اعتصرنا حقها اعتصاراً. جمالياً لا تزال قصيدة الثبيتي مكتنزة بالصورة والفولكلور والأسطورة، ومعبّرة عن الرؤية والموقف، ومشيرة إلى المسكوت عنه، وطافحة بالوجع العام، وفوق ذلك مباغتة في دلالاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية. وهذا كله يُقنعني بأن قصيدة محمد الثبيتي لم تُقرأ كما يجب أن تُقرأ، ولم تواجَه نقدياً إلا في سياق صحافي موارب، أكثر مما هو مستبطن، أو مستكنِه لفاعلية النصّ الجديد. محمد الماجد: حادي الحرية عندما تصل الجائزة فهي تصل مشطورةً كمرثيات، أو شواهد أضرحة، وفي أحسن الأحوال تصل ككفارة لذنب جماعي ارتكب في حق صاحبها. في حديثي سألغي الاحتمال الأول والثاني وسأختار الثالث، لأكثر من سبب ليس آخرها تجربة الثبيتي الحية والعصية على الوأد. التجربة منذ بدايتها كانت"صرخة في البرية"، صرخة من داخل السجن باتجاه الخلاص، وحيدة غريبة، والأوساط الثقافية الحديثة، عندما وزعت أقاليمها ورايتها، أعطت العراق للسياب، والشام لجماعة"شعر"، ومصر لصلاح عبدالصبور، وأبقت الجزيرة العربية خالية إلا من راية النفط. لم يكن المشهد الشعري الحداثي في المشرق العربي وفيّاً إلا مع حواضره المدينية للهلال الخصيب ووادي النيل، مستمداً مبرراته من تواريخ الاستقلال، ودخان الثورات، فبقيت النفوذ وتهامة والحجاز، عاجزة عن خلق مناخات مماثلة، للدخول في دائرة المشهد. بهذا المعنى كان الثبيتي الحادي الذي مزج كل ذلك بماء التلاوات وأحبار الكتب السماوية وقذفه في فضاء الحرية، فكانت المهمة الشعرية وديعةً، اشتغل آخرون على الاستثمار في عوائدها، فيما تقدم هو لحملها. إبراهيم الوافي: درويش الجزيرة سيد البيد محمد الثبيتي، بمثابة"درويش"الجزيرة، فهو صاحب تجربة شعرية متفردة حتى بين أقرانه ومجايليه، من خلال الملامح الخاصة لتجربته، التي شكلت الوجه الأكمل لأثر البيئة الصحراوية في تجربة الشعر الريادي الحديث في المملكة العربية السعودية. وتركت الباب مشرعاً للتمثل والمحاكاة، وأعتقد جازماً أنه أكثر المؤثرين في تجربة قصيدة التفعيلة، حين ترك أثره في أكثر التجارب الشعرية من بعده، وبالتالي فهو صوت يمتدُّ حتى آخر الصدى، لا يرتبط بحقبة ولا بتاريخ، والحقيقة أن خبر إعادة طباعة مجموعته الشعرية تضاريس بعد أن تعثر انتشارها أول الأمر، من الأخبار السارة والمؤثرة، إذ إنني مازلت أعتقد أنها من أهم المنجزات الإبداعية على مستوى الشعر في المملكة العربية السعودية، لذلك سيظل الثبيتي الشاعر الأول على مستوى القصيدة الحديثة في المملكة العربية السعودية، لأنه - بصدقية لا تقدح بأحد - يعد الأكثر غنائية وموهبة وقدرة على مستوى مجايليه، على رغم تقاطع تجربته مع آخرين غيره، من أمثال: محمد جبر الحربي وعبدالله الصيخان، ولأن بيننا شعراء كثراً من شعراء قصيدة التفعيلة ذات الجرْس الموسيقي الواضح، سيظل الثبيتي مؤثراً في الساحة الشعرية من خلال مدرسته"البيئية"الخاصة، وبالتالي لا أجد أقدر منه على الفوز بجائزة"عكاظ"، حين تنتمي للتاريخ، ويكون الثبيتي شاعر التاريخ الحديث الأول في بلادنا.