في السائد العام أن الشاعر ميدانُه ما سوى الشعر، فإذا كتَب نثرًا بدا انتقالًا أو انزياحًا إلى إقليم آخر. ليس صعبًا تبيانُ هذا الخطَل: من مبدأ أن الشعر فن فخم مستقلّ والنثر فن فخم مستقلّ، لا يعطى أيُّ ممتشِقٍ قلمًا أن يَبرع في كليهما وبهما يُبدع. من يُعطاهما؟ الشاعر. في طبيعة الناثر الاسترسال، أديبًا كان أو صحافيًّا، لأن في طبيعة النثر الانقياد الرخو إلى ملاحقة الصورة، المعنى، المقصد، وتاليًا تأبُّط اللغة وسيلةَ إيصال وإبلاغ. في طبيعة الشعر الإيجاز، التكثيف، الومض. من هنا مقولة "بيت الشعر" لا "بيت النثر"، إذ يُفتَرَض أن تكون في "البيت" باقة ضَوء تنبضُ بالأقل الأكثر إشعاعًا. نصُّ الناثر يُولَد أدبًا انطباعيًّا تحريريًّا، أو سردًا صحافيًّا تقريريًّا، حتى إذا تناوله شاعرٌ طرّزه بومضات شعرية تجعل قراءته متعة جماليائية تجمّل بلوغ مضمونه. والجمال غير الجماليا. ذاك في الصياغة، هذه في الإِستيتيقا. اختلاف في القاموس؟ نعم. طبعًا. للناثر قاموسُه/الوسيلة. للشاعر قاموسُه/الغاية. الناثر "يتوسّل" اللغة (فهي وسيلة وأداة). الشاعر "يتوسَّل إلى" اللغة (فهي غاية ومرنى). بهذا المنظار يرى القارئ إلى نثر الشاعر حضورًا مغايرًا. حين يكتب الشاعر نثرًا، يمنحه عبيرًا لغويًّا فيمضي صُعُدًا إلى فضاءات تُوسع اللغة وتُخصبُها عباراتٍ، صُورًا، تشابيه، استعارات، محسّنات، ابتكارات من قلب اللغة ونُظُمها فتقوّيها، لا طافرة عنها فتضعفها. الكلمات أَمام الناثر أدوات يختار منها ما يحتاجه للإبلاغ، للإيصال، للإخبار. الكلمات أمام الشاعر زنابق يختار منها الأنقى الأجمل الأبهى الآنَق للإِمتاع. وبين الإبلاغ والإمتاع يبان الفرق في النص بين أن يكتبه أديب أو أن يكتبه شاعر. الناثر "يستعمل" الكلمات. الشاعر يلاعبها يداعبها يقاربها يطايبها يجانبها يعاجبها، في براعة ذكائية لا بهلوانية، فتتصاعد من كلماته أنوار زَكية العَرْف. لمن يكتب الشاعر؟ يكتب أولًا له. كي يتمتّع بلَقِيّاته فيمتِّع بها السوى. لمن يكتب الناثر؟ للسوى كي يتلقّى ويَمضي. إلّا حين الشاعرُ يكتب نثرًا، عندها يتأنّى ويتأنّق في نثره، جماليائيًّا وشعريًّا، فتكون له أبجدية مغايرة تجعل قارئه يقتبل نثره المشغول برغبةِ ما بها يَقتبل شعره المصقول. الشاعر يبقى شاعرًا في نثره كما في شعره، فيما الناثر إجمالًا، ولو هو ناثر مجيد، حين "يرتكب" الشعر يقع في النظم الثرثار المرسل تفعيلات مركَّبة على الوزن فلا يأتي الشعرَ من التكثيف والإِيجاز. كيف يكتب الشاعر؟ يكتب بالضوء أيَّ ما كتب، فإذا كلُّ ما يكتب مغمَّسٌ بالنور... النور الذي تَشتاقُه، من قلمه، أجملُ الكلمات.