في اليوم العالميّ للّغة العربية (نهار الجمعة الماضي) بَعُدتُ عن التفكير به تقليديّا إلى التفكير بوجهه الآخر: التعريب، لكون الترجمة عملًا مستقلا، صياغةً إبداعية تعادل التأليف وقد تنصِّعُه لقارئها. أَبتعد عن تعريفها الساذج أنها عملية "نقل نص من لغته الأصلية إلى لغة أخرى"، هذا عمل آليّ لا إبداع فيه. هل في الترجمة إبداع؟ طبعًا، المؤلف يتوسل لغته الأُمّ لإيصال فكره مضمونًا يلبس اللغة، والمترجم يتوسل لغته الأُمّ لإيصال فكر المؤلف مضمونًا يلبس لغة جديدة. مسؤولية المترجم أن يوصل بلُغَته قارئه إلى مضمون المؤلف. الترجمة: كتابة جديدة باللغة الأخرى. المضمون هو الجسد. التعبير عنه هو الثوب، شغْل المترجم إيصال الجسد بثوب آخر غير ثوبه الأصلي شرط أن يكون الثوب الجديد معادلًا الأصل، وقد يكون أبهى. ولا يجعل الأصل أبهى إلّا كاتب أو أديب متمكن من نسْج الثوب الجديد بصياغة إبداعية غير مسطحة. النقل الحرفي عملية قاموسية قد تفي الأصل حقه لكنها تُضجر القارئ ولا تشدّه إلى ثوبها الجديد بنصاعة ومتانة لغة وأسلوب، بينما يتذوق جَمال النص الأصلي فيُحبه بفضل ناقله الصائغ. "صائغ"، نعم. المترجم ليس أقل من صائغ صَنَاع يقارب الجواهر بصقْل الحلْية حتى تخرج بأبهى شكل يذهب إلى أبهى مضمون، وهو ما لا يتهيَّأُ لكل نص أو عبارة أو مؤلف. كما للنثر مراتب بين البليد والفني، وللشعر مراتب بين النظْم والإبداع، كذا المَراتب بين ترجمة عادية (لنصوص علمية أو تجارية، والويل إذا مترجم عاديّ تناول بها نصّا أدبيّا)، وترجمة أدبية لا يأتيها سوى أديب مبدع أصلًا في لغته الأم ليحوّل النص الأصلي حلْيةً أنيقة. هنا الخطورة في الترجمة الحرفية الباردة. قد يكون الأصل جميلًا في لغته، فيأتي نقله الحرفي مسطّحًا ينقل جسد المضمون بالثوب البالي فيقضي الثوب على الجسد الأصلي، ولا يصل المؤلف إلى قارئه باللغة الجديدة. من هنا أنني، حين أُعرِّبُ كتُبًا، أُوقّعُها بعبارة "صاغها بالعربية" ولا أكتب "عرّبها" أو "نقَلها إلى العربية" أو "ترجمها"، لأنني لست قاموسًا أترجم كلمات أو عبارات أو صفحات من لغة إلى لغة، بل أنا صائغٌ آخُذ مضمون المؤلف كما عبَّر عنه بلُغته، وهذه مسؤوليته، وأعيد صياغته أمينًا عليه بلُغتي. إذًا مسؤوليتي حياله: أن أنقل "ماذا" كتب. أما "كَيف" أنقله، فهو شأْني. هذه هي المسافة بين الأصل والنقل. وبين ال"ماذا" في الأصل وال"كيف" في النقْل، يبانُ الفرق في الترجمة بين أَن تكون عملًا ببّغاويًا، أَو صياغةً إبداعية.