مهمة تتجاوز مجرد نقل المعاني، إلى مهام مركبة، تحافظ على أرواح النصوص الشعرية ثقافة..وأسلوباً.. ومناخاً، مما يفرض على الترجمة القدرة على إنتاج لغتين أولهما: لغة المحتوى، التي تتطلب من المترجم التعامل مع الوظيفة التعبيرية للغة، لإنتاج ترجمة دقيقة للمعنى..أما الثانية فلغة ( الشكل الأدبي ) المعنية بجماليات اللغة، لنقل المعادل الوظيفي لجماليات القصيدة المترجمة.. الأمر الذي يختبر قدرات المترجم، ومدى وعيه وحسه الأدبي، وقدرته الثقافية في اللغتين، وحقيقة ما يملك من أدوات علمية للتعامل مع ترجمة قصيدة من لغة إلى لغة. الشاعرة بديعة كشغري، اعتبرت بأن السؤال عن القصيدة المترجمة سؤالاً محرضاً، جعلها تستلهم كل قراءة قرأتها من شعر مترجم، لا سيما للكبار أمثال هيمروس، شكسبير، نيرودا، طاغور.. تقول بديعة: الشعر لغة داخل لغة، والقصيدة كائن يقيم في تلك المنطقة الإيحائية من ( اللا وعي ) وارتباطه ب(الأنا ) بل بأنوات عديدة، وما تنتجه من تصارع وتجاذب داخل اللغة الأم، فإن على الترجمة أن تردم الهوة بين اللغتين، اللغة الأصل والأخرى المترجم إليها، وذلك باعتبار أن لك لغة لها أنساقها اللغوية والبلاغية المختلفة، إضافة إلى تعقيداتها السيميائية، وطاقاتها الإيحائية المرتبطة بالبنية الإحالية للنص. وأكدت كشغري بأن لكل قصيدة مناخها النصي، ذا الشحنات الحضارية والاجتماعية، النابعة من خصوصية اللغة المكتوب بها، مشيرة إلى أن تذوقنا للقصيدة المترجمة، يكون بمقدار مقاربته للمخيال الشعري، الفردي منه والجمعي، وذلك لكاتبها الأصل، إضافة لتحسسها لطاقات اللغة، التي أساسها مزيج بين الجمالي والإنساني، وبين الرمزي والإيحائي. من جانب آخر أشارت بديعة من خلال تجربتها الشخصية في ترجمة مجموعة من قصائدها، إلى أن النص المترجم في أغلب الأحيان يباغتنا ب( نص آخر جديد ) وهذا ما ذكره الشاعر الكندي ( باتريك وايت ) في مقدمة ديوان كشغري ( زهرة اللوتس العصية ) والذي يرى بأن النص الشعري المترجم، من حيث تطويعه اللغوي والإحالي، كان يقارب الأخيلة العربية، في جلباب جديد أضاف إلى اللغة المترجمة – الإنجليزية – طزاجة فريدة في نكهتها، عادة ما تحدث للمترجمين والكتاب الذين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم، دونما إخلال بالأنساق اللغوية في اللغة المترجمة. بديعة كشغري أما فيما يبقى من القصيدة بعد ترجمتها، فقالت بديعة: يبقى لنا الفكرة في جلباب لغوي جديد، والرؤية في إطار القراءة التأويلية في اللغة المترجمة، بأبعادها الحضارية والثقافية.. مدللة على أن هذا ما يتجسد فيما وصل إلينا من تراث إنساني شعري، كالإلياذة والأوديسة، وملحمة جلجامش، وقصائد الهايكو اليابانية. أما الشاعر والمترجم الدكتور شريف بقنة، فقد أكد على ألا يكون النص المترجم اقل قيمة من النص الأصلي من الناحية الإبداعية والقيمة الفنية؛ منبهاً إلى أن هذا بالضرورة يشترط وجود الأدوات اللازمة لدى المترجم، التي يعتبر د.بقنة بأن أهمها الملكة الإبداعية. وقال د. شريف: اتفق كثيرا مع نظريات الترجمة التي تقوم على ضرورة تمتع المترجم بالبديهة، والحس الذي يمكنه من التقاط الإيحاءات والدلالات الأصلية، من النص، وبعبارة أخرى فلابد أن يكون المترجم أديبا قبل كل شيء، فلا يسجن نفسه في الترجمة الحرفية. ومع أن هناك من لا يرى بضرورة أن يكون مترجم القصيدة شاعرا، متى ما كان متمكنا من أدواته، وذا ثقافة وحس أدبي في اللغتين، إلا أن د. بقنة يرى بأنه من الصعوبة له قراءة شعر من مترجم لم يكتب شعراً من قبل، مؤكداً على أن الشعر لا يترجمه إلا شاعر انطلاقاً من قاعدة (لا يمكنك رؤية مالا تعرفه!). وأوضح د.شريف بأنه ثمة قوانين أدبية وأخلاقية، ظهرت منذ بدايات القرن العشرين كضرورة ومرحلة من مراحل التطور الإنسانية، ومن ذلك حقوق الملكية الأدبية والفكرية، وما يترتب عليها من ضرورة الالتزام في الترجمة الأدبية، مشيرا إلى قوانين أخرى تهاوت مع ضرورة التطور، مختتما د. بقنة حديثه بأنه لا حاجة لوجود عوامل ثقافية مشتركة بين لغتين لتبادل الترجمات الأدبية، ذلك لأن الثقافة والعالم كله مدينة واحدة الآن . د. عبدالله مناع وعن بُعد آخر، أوضح الكاتب والناقد الدكتور عبدالله مناع، بأن الشاعر المتمكن من أدوات ترجمة القصيدة، هو الأولى وصاحب الأفضلية لغةً وفناً.. إلا أن المناع أكد على أهمية ألا يقف هاجس الشاعر المترجم حاجزا أمام ترجمة القصيدة خاصة والأدب عامة. يقول د.عبدالله: النص ليس مجرد أفكار، ومن هنا فالقصيدة المترجمة غالبا ما تفقد الكثير، إلا أنني مع ترجمة القصيدة من لغة إلى أخرى، لأن وصول أفكار القصيدة للقراء الذين لا يتقنون اللغة الأخرى يعد مكسباً في حد ذاته، ومن هنا لا يمكن حرمان الأجيال من الأشعار المترجمة بحجة ما تفقده الترجمة من جماليات القصيدة، وخاصة أن هناك من يستطيع المحافظة على أفكار القصيدة ولغتها وما تحويه من جماليات ببراعة أدبية. واختتم د. مناع حديثه مشيرا إلى إبداع الشيخ الأزهري الصاوي، في ترجمته لقصيدة محمد إقبال ( حديث الروح ) والذي استطاع أن يقدم للقارئ ما ترجمه من قصائد بلغة حملت مضامين الشاعر ومعانيه، وحافظت على لغة القصيدة وما اكتنزته من فنيات وجماليات شكلها النص الأصلي.