كان المنصب فيما مضى وعاءً يطفو التشريف فيه على التكليف، وكانت المسؤولية رداءً تطغى فيه زركشة الحصانة على بياض الشفافية، كان المسؤول محاطاً بحواجز من الوقار تحول بينه وبين أن تصطدم به مركبات الاعتراض، وكان مكتبه مسوَّراً بأسلاك شائكة من الهيبة تُجْبِرُ من يَدْخُلُه على توقير من بداخله، فكان بعض المسؤولين يُهَابُ بسماع صوته من هاتف سيارته قبل رؤيته، بل كان بشت بعضهم المعلَّق في مشجب مكتبه يقوم مقامَه في غيبتِه. وجاء هذا العهد الزاهر بقيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين - أعزه الله - وإدارة سمو سيدي ولي العهد - حفظه الله - الذي محا بممحاة الحزم كل تلك المسلّمات، فبات كرسيُّ المنصبِ وكأنه على قارعة الطريق يراه الرائح والغادي، وأصبح قرار صاحب الصلاحية يعْلَمهُ النائي قبل أن يِطّلَعَ عليه الداني، فأضحى المسؤول كتاباً مفتوحاً يقرؤه الجميع وتُحَلِّلهُ النخبة، وباتت الإجراءات شاشة ينظر إليها الأعمى وحديثاً يسمعه من به صمم. فكانت محاربة الفساد؛ فانقشعت تلك السحابةُ التشريفيةُ التي كانت تحجب أخطاء المسؤولين فصار يناقشها كل ناقد ومستفيد ولا يضام في رؤيتها قريب ولا بعيد، فبتنا نرى المسؤول أعمالهُ تتحدث عنه لا إعلامه، وأرقامُه تصفق له لا أقوامه. فَعَمَّ عند العامة والخاصة أنه ما من خطيئةٍ يمشي في وحلها مسؤولُ وإن خالها تخفى على الناس حتماً سَتُكْشَفُ فينعم ذو الإخلاص بطيب ذكره وأخو الإفساد وإن أطفأ ريبتَه سيعْرَفُ. ونما إلى علم الجميع أنه لا حظوة لدى مسؤول ترجى ولا وِد منه يُخْطَبُ، وليس حقاً ليس لمطالبٍ به يعطيه وليس شبراً من حقه يسْلَبُ. فَتَشَكّلَتْ للملأ معادلةٌ دقيقةٌ كدقة مثيلاتها الحسابية أنه: (من أخلص فأنتج فله الثواب، ومن خان فغش فله العقاب). فلله دره من عهد ميمون جعل من المسؤول مسؤولاً حقاً.