متى سنتنبه لطبيعة العلاقة الوظيفية بين الرئيس والمرؤوس، تلك التي تصب في مصلحة شيء اسمه الوطن، سواء تعاملنا مع مدير أو وزير.. لكنني لا أحلم بأن أكون جاراً لوزير، شقتي قبالة شقته هل يحق لي أن أسمي الفساد الإداري حصاداً؟.. نعم، إذا كان بعض المسؤولين يحصدون من ورائه المباني، وينشئون المزارع، ويركبون الدواب من سيارات الدولة، وينتفعون من سلطانهم عند كل ذي خَرْجٍ.. لكن هذا ليس موضوعنا اليوم.. إنما هو: حول نوع آخر من الحصاد الإداري الفاسد. يقول أحدُ الطلاب العرب: استأجرت شقة في عمارة بحي «قلاس ييغ» في باريس، ولم أكن أعلم أن جاري في الشقة المقابلة لشقتي كان وزيراً في الحكومة الفرنسية؛ إذ كان يدخل العمارة ويخرج دون خَرَاجٍ مِنْ سائقٍ يحمل له حقيبته، أو حتى مِنْ أحدٍ يُسلم عليه؛ بل كان يصعد السلم إلى الدور الثالث، يحمل أكياساً بها بضع حبات من الطماطم ومثلها من البصل، وحزمة كراث، وقطعة خبز من نوع «بقيت» وبعض الصحف، وحقيبة صغيرة لا يجد لها حلا فيضعها تحت إبطه؛ وحين يزداد عليه الحمل يصعد ببعضه، ثم يعود إلى البقالة ثانية، ليصعد بالباقي. أخونا العربي يقول: هذا المشهد ذكّرَهُ بمدير مؤسسةٍ حكوميةٍ صغيرة، كان يُكلف عاملَ النظافة- البنجلاديشي- بإحضار حقيبته الفخمة من السيارة إلى المكتب، مع حجزٍ مؤكدٍ للعودة عند نهاية الدوام.. وعندما رُقي- هذا المسؤول- ليصبح مديراً لمؤسسة أكبر قليلا، أحاط نفسه بكتيبة من السكرتارية- لزوم الكشخة المكتبية- وفرقة مصفحة من أربع جنسيات آسيوية- لزوم المطبخ- ولواءٍ مدرعٍ مضادٍ للاكتئاب المكتبي مكون من عناصرَ من رجال التسلية من الموظفين العاطلين، وفرقة من المظليين للحالات الطارئة، مع فرقة من مشاة البحرية من موظفي العلاقات العامة للسير معه إلى السيارة عند العودة، مع توصيل المقاضي إلى المنزل، على عزفِ موسيقى المارش.. الأمر الذي أدى بالمدير إلى نسيان المراجعين المحتاجين إليه. السؤال: من الذي أفسد هذا المدير على هذا النحو؟.. الجواب: إنهم الموظفون الذين تسابقوا إليه لإعطائه مقاساً أكبر من حجمه الوظيفي، حتى استحالوه إلى مدير خارقٍ للعادة. فإن أخطأ قالوا له أصبت، وإن ظلم قالوا عدلت، وإن عبث قالوا أبدعت، وإن ذكر زميلاً لهم بسوءٍ في غيابه، قالوا صدقت (ويستاهل بعد تعطيه على رأسه) بل لو مَدّ المديرُ إحدى يديه باتجاه منضدته تسابقوا لإعطائه القلم، فيكتشفون أنه يريد الممحاة، وإن حرك اليد الأخرى وقفوا جميعا شبيك لبيك، فيكتشفون أنه كان يهش ذبابة من على إحدى شفتيه؛ ناهيكم عن تسابقهم للوشاية عنده ببعضهم بعضاً للتقرب إليه. إن سلوكنا الممجوج هذا هو الذي يزرع في المدير بذرة الفساد الإداري؛ ذلك عندما نصور له أنه الأوحد، فيظن أنه بات من حقه أن يتصرف كما يشاء.. فيأخذ، وينهب، ويسرق ما يريد؛ والويل لمن لم يؤد النشيد، أو السلام المديري الصباحي، وإلا أعَدّهُ خارجًا على الطاعة، فيتم نفيه إلى جزيرة فرسان (كنا قديماً ننفي إليها العاقين، وعندما تحضرنا أصبحت مزاراً سياحياً فريداً). يقول أخونا- جار الوزير- لماذا لا نتعلم كيف ندع المدير يعمل، دون الحاجة إلى تملق منا أو نفاق، فو الله لو جاء آخر مكانه لما وجد من يحمل له شنطته، ولا ناوله أحدٌ قلماً ولا ممحاة، إلا الممحاة التي سيمحونه بها وهم في طريقهم للترحيب بالمدير العريس الجديد ليفسدوه على نفس الطراز السابق مع إضافة ما يستجد من إكسسوارات حديثة. متى سنتنبه لطبيعة العلاقة الوظيفية بين الرئيس والمرؤوس، تلك التي تصب في مصلحة شيء اسمه الوطن، سواء تعاملنا مع مدير أو وزير.. لكنني لا أحلم بأن أكون جاراً لوزير، شقتي قبالة شقته .