لطالما أثار المفكر واللغوي والفيلسوف والناشط السياسي الأميركي الكبير نعوم تشومسكي الجدل حيثما ظهر وكتب. فقد اشتهر بخروجه عن الأنماط الثقافية المعتادة والقوالب الجاهزة وبهجومه العنيف والمتواصل ضد بعض أوجه السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولا يزال يثير الجدل في آرائه حتى الآن. فبالرغم من تجاوزه التسعين عاماً، ظهر تشومسكي مؤخراً في أحد اللقاءات الصحفية ليقول إن العالم مقبل على ما هو أشد من أزمة جائحة كورونا كالحرب النووية والاحتباس الحراري وصدام القوى الكبرى. ولا شك أن لتشومسكي تأثير كبير في الحقول المعرفية التي اشتهر بها كاللغويات وعلم النفس والفلسفة التحليلية والعلوم السياسية، وكذلك في النقد الأدبي وإن بدرجة أقل. كما أن آراءه تهم شريحة كبيرة من المثقفين العرب، وبخاصة لدارسي اللسانيات وعلم النفس اللغوي والفكر السياسي، فهي ذات تأثير كبير ومتواصل لأكثر من نصف قرن. وقد صدرت مؤخراً الترجمة العربية لسيرته «العملية» الشاملة Chomsky... Ideas & Ideals بعنوان (تشومسكي.. الأفكار والمثل) عن دار الرافدين في بيروت ونقلها عن الإنجليزية العراقي الهادر المعموري. والكتاب نشر في أصله لأول مرة عام 1999، لكن المؤلفين نيل سميث ونيكولاس آلوت، الباحثين اللغويين في كلية لندن الجامعية وجامعة أوسلو على التوالي، دأبا على توسيع الطبعات اللاحقة ليضيفا في كل مرة عدداً من رؤى وأفكار تشومسكي المهمة في قضايا خطيرة كالربيع العربي، ووثائق الويكيليكس، وحركة احتلال وول ستريت. تكمن أهمية الكتاب الضخم والذي جاء في 650 صفحة في إعطائه نظرة عامة موسعة على كل مجالات عمل تشومسكي الفكري من خلال مئات اللقاءات والحوارات والندوات التي ألقاها ومن تأليفه لأكثر من 100 كتاب مختص باللسانيات والفلسفة والسياسة. تناول الكتاب أعماله في اللسانيات والتنظير اللغوي وأساسياته مع إسهاب جيد في مشروعه المهم (العقل واللغة)، فيسرد المؤلّف أيضاً وبشكل شمولي نظريّاته الأساسية في اللغويات حتى التطوّرات الأخيرة في برنامجه الفكري والألسني انطلاقاً من بعض الأسئلة مثل «كيف نعرف اللغة؟ كيف يكتسبها الأطفال؟ وكيف تطوّرت؟»، وكذلك ربطه للغة واكتسابها بعلم النفس مع مناقشة الآثار النفسية والفلسفية لعمله، حيث يؤكد المؤلفان بأن صاحب كتاب «البنى النحوية» قد غيّر جذريًا من طريقة تفكيرنا في أنفسنا، وأن تأثيره في تاريخ الأفكار يساوي تأثير تشارلز داروين أو رينيه ديكارت. كما يقدّم الكتاب كذلك نظرة تشومسكي الخاصة وعمله الكثيف حول أحداث 11 سبتمبر 2011، والتي وضع حولها عدة مؤلفات وكتب عنها مقالات وتحليلات مختلفة وعميقة، نذكر منها كتابه المهم (9-11.. الإرهاب والإرهاب المضاد)، والصادر عن دار الفكر في دمشق عام 2003. ويغطي الكتاب وبطريقة موثوقة وغير متحيزة للبعض من آراء تشومسكي الراديكالية وأكثر أفكاره إثارة للجدل في العديد من القضايا كحروب الولاياتالمتحدة الحديثة في قارة آسيا تحديداً وتهريب المخدرات والقتل والتغير المناخي ونزع الأسلحة النووية، وسيطرة وسائل الإعلام وخيانة المثقفين وغيرها،. وقد تم تحديث الكتاب ليغطي بعض التطورات الأخيرة (عمد المؤلفان إلى تضمين كل المراجع في آراء وأقوال تشومسكي والمصادر الأخرى في ملحق من خمسين صفحة في نهاية الكتاب)، وأصرا في كل طبعة جديدة من الكتاب على إضافة فصول جديدة تتعلق بكتب وآراء تشومسكي التي صدرت لاحقاً بعد أن نشرت الطبعة الأولى منه، بحيث يصبح العمل كسلسلة مستمرة تتابع حياة وأفكار أستاذ اللسانيات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) لأكثر من ستة عقود.