من المعروف ان اللسانيات علم يصعب على القارئ العادي وغير المتخصص ان يفهم تفاصيله ودقائق المفاهيم التي يعتمد عليها، خصوصاً اذا كان الامر يتعلق بمدرسة او فرع خاص من فروعه المتعددة. فكيف يكون موقف القارئ امام كتاب يضم في الوقت نفسه هذا العلم والأوضاع السياسية في الولاياتالمتحدة والعالم؟ او امام كتاب يقوم على آراء صاحب اكبر مدرسة لسانية هي مدرسة "النحو التوليدي"؟ الحقيقة ان القارئ لكتاب نعوم تشومسكي - "اللغة والمسؤولية" - لا يجد صعوبة كبيرة في متابعة افكاره وفهم معاني النصوص التي يقدمها، لأن صاحبه لا يبغي وضع نظرية جديدة فيه او شرح تفاصيل القواعد التوليدية شرحاً مفصلاً او مسهباً. فالكتاب تسجيل لحديث او حوار جرى بين تشومسكي والباحثة اللغوية ميتسو رونت، وتناولا فيه مواضيع شتى تجمع بين السياسة والفلسفة وعلم الدلالة وبالطبع النحو التوليدي. يتوزع الكتاب في قسمين رئيسين: علم اللغة والسياسة والنحو التوليدي. الواقع ان القرّاء الذين يهتمون بأعمال تشومسكي يعرفونه ربما من خلال تحليلاته للإيديولوجيا "الأمبريالية" الاميركية وانتقاداته لسياسة الولاياتالمتحدة الخارجية اكثر مما يعرفونه من خلال التيار اللساني الذي اوجده. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن: ما دخل اللغة بالسياسة؟ وكيف يمكن لمحلل اللغة ان ينغمس في الافكار السياسية؟ يجيب تشومسكي ان الصلة بين الميدانين تقع على مستوى تجريدي جداً، بل انه يميل الى رفض وجود صلة مباشرة بينهما. فمناهج التحليل المألوفة في اللسانيات لا يمكن تطبيقها كما هي على المسائل الاجتماعية او السياسية. فالميدان العلمي يحتاج في نظره الى التخصص وإلى منهجية تحليلية تتلاءم مع موضوع التحليل وأهدافه، في حين يكفي ان يكون المرء على مقدار ضئيل من تفتح العقل والذكاء العادي والشك الصحيح ليحلل الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه. وما نجده في الحياة الفكرية والثقافية المعاصرة هو محاولة الصحافيين والمعلّقين السياسيين اعطاء الانطباع بأن المفكرين المزوّدين بتدريب خاص هم وحدهم القادرون على مثل هذا العمل التحليلي وبأن الناس العاديين عاجزون عن فهم العالم الذي يعيشون فيه مباشرة ومن دون وصاية الوسطاء. هذا موقف يجاريه تشومسكي. فهو لا يؤيد ربط تحليل الموضوعات العلمية بتحليل المسائل الاجتماعية والسياسية. وهو يدعو الانسان العادي او غير المتخصص الى التفكر في تلك المسائل ومناقشتها وإعمال العقل في معرفة القضايا المعاصرة والنظر فيها. يقول تشومسكي: "ان ترددي في محاولة ربط عملي في علم اللغة بتحليلات للقضايا الراهنة او للإيديولوجيا، على غرار ما يقترح كثيرون، يرجع الى سببين. اما في المقام الاول، فان العلاقة واهية حقاً. يُضاف الى ذلك انني لا اريد ان اسهم في الايهام بان هذه المسائل تقتضي فهماً تقنياً يعزّ الحصول عليه من دون اعداد خاص" ص18. وصحيح ان التحليل العلمي للغة قد يكون مرحلة اساسية في فهم الواقع السياسي وتحليله، ولكنه ليس ضرورياً بتاتاً. لذلك، يؤكد تشومسكي على ان الإعلام يجعل من الميدان السياسي والاجتماعي ميداناً خاصاً به وحده، على عكس ما يجري في التخصصات العلمية التي عليها هي ان تأخذ هذا الموقف. ويسوق مثالاً على ذلك انه قام في حياته المهنية بدراسة الرياضيات، فتحدث في مؤتمرات ومحاضرات عدة عن "علم اللغة الرياضي" وكانت له فرضيات ونظريات في هذا المجال. ولكن لم يسأله احد من الباحثين، اللغويين منهم والرياضيين، ما اذا كان يحمل شهادة في الرياضيات او انه تلقى مقررات دراسية في هذا الموضوع. اما عندما ناقش في السياسة الخارجية الاميركية، فانه أثار تساؤلات عدة حول التأهيل الخاص الذي يخوّله التحدث في اشياء مماثلة. والواقع ان لتشومسكي مواقف جريئة في ما يتعلق بالامبريالية الاميركية وبالصحافة الاميركية. فهو يرى ان وجهة نظر وسائل الاعلام في الولاياتالمتحدة هي "رأسمالية"، لأنها على درجة هائلة من "التماثل الايديولوجي" مع الدولة ولكونها "مؤسسات رأسمالية". والمثال الذي يقدمه على ذلك انه رغم التسجيل الشامل والمعروف لأكاذيب الحكومة إبان حرب فييتنام، ظلت الصحافة الاميركية تقبل مزاعم الحكومة وتنقاد لإطار تفكيرها وللتفسير الذي تقدمه. ثم يأتي تشومسكي بالكثير من الأمثلة الحيّة التي تدل على المتناقضات والانتهاكات وأعمال الترهيب التي تُمارس في الحياة السياسية والاجتماعية في اميركا، من تورط الاستخبارات الاميركية في اعمال مريبة ضد الطلاب في الجامعات، والحرب في فييتنام وما رافقها من تضليل وأكاذيب، الى قضية ووترغيت. وفي ما يتعلق بهذه الاخيرة، فانه لم تتم ادانة نيكسون لانه استخدم اساليب فاسدة في عمله السياسي، بل لأنه اخطأ في اختيار الخصوم الذين استعمل معهم تلك الاساليب. في ما يتعلق بالقسم الثاني من الكتاب، فان حديث تشومسكي يتركز بشكل خاص على النحو التوليدي. فهو يبين التعارض بين اللسانيات البنيوية التي تعد علم اللغة نشاطاً تصنيفياً، والنحو التوليدي الذي يرى فيه علماً يدرس البنية المنطقية. ويتوسع في حديثه عن مفهوم التحويل وقواعد الكتابة وتحليل اللغة الى بنيتين عميقة وسطحية، وذلك على المستوى النظري وعلى المستوى العمليّ. والواقع ان تشومسكي يؤكد على ان النحو التوليدي علم منطقي، يقوم على مبادئ نجدها في الرياضيات، وعلم المنطق، وعلم النفس، وغيرها من العلوم البحتة. كذلك يتوسع في كلامه عن علم الدلالة وعلاقته بالبنية النحوية فيميز بين علم الدلالة التفسيري وعلم الدلالة التوليدي. فقد قدم هذا الاخير "فكرة القواعد الشاملة، اي القواعد التي تربط التمثيل الدلالي التجريدي الأساسي وخاصيات البنية السطحية التي تتدخل في تحديد المعنى" ص163، بحيث انتهى الى تقديم نظرية عامة موسعة للتفسير الدلالي. لقد قام عيسى العاكوب وخليفة العزابي بترجمة جيدة جمعت بين الدقة في اختيار المفردات اللسانية والبساطة في العبارات والتراكيب اللغوية. وقد وفّقا في ترجمة الامثال والنماذج التي يقدمها تشومسكي كتطبيق لمبادئه النظرية، اللهم إلا في ما يتعلق بالتراكيب الواردة في الصفحة 114. فقد نقلا الى العربية بعض الجمل التي تُعد تركيبتها النحوية غير مقبولة في اللغة الانكليزية، وقدّماها في العربية على انها "لا تنتمي الى اللغة" في حين انها مقبولة تماماً في لغة الضاد. فجاءت عندهم الجملة "يحب قيس ليلى" جملة غير نحوية ولا تقبلها اذن المتكلم بالعربية. وكان من الافضل لو انهما احتفظا بالامثلة في لغتها الاصلية، فالأمر يتعلق بجواز التركيبة النحوية. وهذه قضية يختلف الحكم فيها باختلاف اللغة، وقد تكون بالتالي بعض التراكيب النحوية غير جائزة في الفرنسية او الانكليزية مثل تقديم الفعل على الفاعل، والجملة الأسمية، وغيرها، في حين انها جائزة تماماً في لغة اخرى كالعربية مثلاً. وفي الختام، فان علم اللغة في رأي تشومسكي هو العنصر الايجابي الوحيد في مجمل سلسلة العلوم الانسانية المعروفة في نهاية هذا القرن، وذلك على رغم المشكلات النظرية التي لم تحلّ بعد. ترجم الكتاب الى العربية عيسى العاكوب وخليفة العزابي وصدر عن معهد الانماء العربي، في بيروت، 1998.