كانت شخصية ياسين في ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية) انعكاسًا للشخصيّة المظلومة عند الناقد والقارئ، فكل شخصية من شخصيات الثلاثية نالها وهج سردي كافٍ لتتفرّد عن غيرها، ما عدا شخصية ياسين التي اعتبرها من أهم شخصيات نجيب محفوظ. لقد قُدِّر لياسين الضّياع بين سطوة واستبداد شخصية الأب السيد أحمد عبدالجواد، وشخصيات الأسرة، فهناك الشهيد فهمي الذي مثل رمز الثائر المناضل، وهناك العاشق الواهم كمال عبدالجواد، كما نجد الست أمينة التي لعبت دورًا مهمًا في تحفيز عوامل إخفاء شخصية ياسين، إذ نالها كثيرٌ من الوهج السردي الذي ركّز على ضعفها وأمومتها. لقد امتازت كل شخصية من تلك الشخصيات بِسِمة حقّقت لها التَّفرُّد ووضوح المعالم، إلّا ياسين، فقد حُرم من ذلك، ولعلّه ظهر تابعًا لغيره؛ فهو في علاقته بالمرأة يقع تحت ظلال والده السيد أحمد عبدالجواد، الذي كانَ له العين المترصِّدةَ لتصرفاته في المنزل وفي لحظات الأنس والبهجة، كما أنّه لم يكن عاشقًا حقيقيًا في حكايات العشق التي يزخر العمل بها، إذ كانت الحظوة السردية في هذا الجانب لكمال عبدالجواد، ويضاف إلى ذلك أن حظّه في جانب النضال والثورة كان ضئيلًا كحظه في جانب الحب والعشق. لقد قدّم نجيب محفوظ في ثلاثيّته أربعة نماذج للتعاطي مع المرأة، تمثّلت في رجال أربعة: أحمد عبدالجواد الرجل الشهواني الانتقائي، فهمي الشاب الرومانسي العقلاني، كمال الرجل الرومانسي الواهم، وياسين الرجل الشهواني الصرف، وقد مضت كلّ شخصية تتصرّف حسب قناعاتها، فتتعاطى بناءً عليها مع المرأة وتسير في دروب حياتها انطلاقًا منها. لكنّ ياسين وإن كانت سيرته مع النساء هي السيرة الأكثر تعاسة والأشد مرارة، فقد بدا بشخصيّة ضاحكة متناسية لهمومها، غارقة في شهوانيتها، مجِّلةٍ للنزوات العابرة، وهو ممّا يحسب لنجيب محفوظ، فقد تمكّن بذكائه السردي من تحقيق هذه الموازنة في شخصية ياسين لتكون انعكاسًا لفلسفتها الخاصة في التعامل مع الماضي والحاضر، وهي فلسفة نجدها واضحةً في العبارة التي كتبها نجيب محفوظ عن ياسين في بين القصرين: «إنه يحملق في الماضي على استكراه ونفور شديدين، ولكنه وجد المقاومة لا تجدي، كأنما ذاك الماضي دمل يود لو يتجاهله على حين لا تمسك يده عن جسه من آنٍ لآخر. ثم إن هناك أمورًا لا يمكن أن تنسى». كان ياسين معذبًا بماضي أمّه، وهو عذاب راح يتضاعف في كلّ مرة يلتقي فيها الست أمينة في منزل والده، فيجدها تقدم الأم في نموذج مغاير لنموذج والدته. ولا يمكن أن تذكر علاقته بأمه دون الوقوف على مشهد زيارته لها وهي على فراش الموت، وهو أحد المشاهد العظيمة في الرواية، يكتب فيه نجيب محفوظ عن ياسين وهو يتأمل وجهَ والداته، ليوضّح لنا مشاعر هذه الشخصية المتضادّة تجاه أمها: «لا يحب أن يتصور المضمر في علم الغيب، يود أن يقف عقله عن الحركة وأن يتبع الحوادث لا أن يسبقها». إلّا أنّ هذه الآلام والمعاناة التي يعانيها ياسين، لم تنتج لنا سوى شخصية هامشية باقتدار، فهو على الرغم من أنه الأخ الأكبر إلا أنه لم يكن مؤثرًا لا على الأسرة ولا حتى على قرارات حياته الشخصية، فقد ظلّ معتمدًا على سطوة والده حتى عندما أصبح أبًا بدوره، فكان انعكاسًا لشخصية الزوج الضعيف، وإن كان يصرّ على الرّغم من ذلك على عدم التّخلي عن شرابه ونزواته. لم يرد ياسين أن يفكر في شيء، فهرب من التفكر في الماضي كما هرب من التأمل أو التفكير في الحاضر وتجاهل تصوّر أو توقّع ما يمكن أن يأتي به المستقبل، لقد كان ابن لحظته. تحفل روايات نجيب محفوظ بقصص الزواج، وفي الثلاثية تحديدًا سجّلت حكايات الزواج مشاهد سردية لا تنسى، بل إن القارئ يعيش مع تلك المشاهد وكأنه أحد الجيران أو الشهود في الحكايات. ياسين الذي حرم الوهج السرديّ مثلًا، تزوّج ثلاث مرات، فكانت له حكايته في كل زواج، في المرة الأولى زوّجه والده ابنة صديقه محمد عفت وذلك بعد أن ضبطه مع الخادمة، لكنّه طلق تلك الزوجة لأنها ضبطته بدورها مع خادمة أخرى، ولم يكن قرار الطلاق بيده بل بيد والده الذي أجبره عليه. وفي المرة الثانية تزوج مريم بكلّ طيشٍ وفداحة؛ إذ كان على علم تامٍّ بسلوكها المشين مع جنود الإنجليز، ويبدو أن ما دفعه إلى الزواج منها تمنّعها عن وصاله، لكنّه -وإمعانًا في نزواته، وهو كما أسلفنا ابن لحظته- عندما ذهب لخطبتها لم يتردّد في إقامة علاقة مع والداتها، وهي علاقة امتدت فترةً من الزمن ولم تنقطع إلّا بوفاة الأم. ثم تزوّج في زيجته الثالثة العالمة زينب التي كانت مرتبطة عاطفيًا بوالده، وقد وجد في زواجه منها طريقةً ليسجّل تفوقًا ما ضد والده. لقد ارتبطت هذه الزيجات جميعًا بشخصية ياسين ورؤيته للمرأة، فهو رجل ملول يقول عن زوجته مريم: «عدوت وراءها عامًا ثم مللتها في أسابيع». لكنه في المقابل كان الشخص الذي يريد لحياته أن تمضي بذات الطابع العادي، دون تغييرات أو حوادث فجائية، لذا يقول عن الطريق الذي يحب أن يسلكه يوميًا: «لو شابه حبي للمرأة التي يختارها قلبي حبي لهذا الطريق، لأراحني من متاعب جمة». لكلّ شخصية في الثلاثية دورٌ محدد لا تتجاوزه. وعلى الرغم من أن شخصية ياسين كانت خصبة إلا أن نجيب محفوظ أراد له البقاء في مسارٍ عاديٍّ خاص به وحده، يمتاز بنكهته السردية العادية، لهذا السبب كان ياسين رجلًا عاديًا. وليس هذا غريبًا ففي خضم كلّ التغييرات التي حلّت بأفراد تلك العائلة وقناعاتهم وسلوكياتهم، كان لا بدّ من أن تبقى شخصية ما ثابتةً لا تتغيّر، تحافظ على سلوكياتها وقناعاتها وأسلوبها. فلم يكن ياسين متذمرًا ولا متأففًا ولا ساخطًا، لكنّه كان غارقًا في فلسفته الخيامية - نسبة لعمر الخيام -متلذذًا بالنزوات وراضيًا بحياته العابثة. واعتمادًا على هذه الرؤية أقول إن الرواية العربية حافلة بمختلف الشخصيات المتنوعة في هيئاتها ونماذجها، فهناك المستبد والثائر والعاشق... لكن ليس هنالك غير ياسين واحد فقط.