.. ربما لا نستطيع أن نباشر القول في رائعة: «عربة اسمها الرغبة» تينسي وليامز، الكاتب المسرحي الأمريكي، من كونها مسرحية تحولت إلى فيلم سينمائي، بل من ناحية تبلور ما تطرحه وما يزال حاصلاً في إدانة الشر للإنسان نفسه، عبر تضاديات عناصر شكلت صراعاً حبك بنسيج متين وقوي توهج في اختيار الشخصيات كلها سواء في النسخة السينمائية الأمريكية عام 1995 التي أعد حوارها وسيناريوها ديفيد سايمون وأخرجها غلين جوردن التي مثلها: أليك بالدوين وجيسيكا لانغ مع جون غوود مان ودايان لين أو النسخة السينمائية المصرية التي أعد حوارها وسيناريوها رفيق الصبان وأخرجها علي بدر خان ومثلتها: نادية الجندية وإلهام شاهين وصلاح عبدالله وياسر جلال. .. إن محور النص المسرحي أو الحكاية السينمائية المعدة للفيلم هي الشخصيات التي ضاعفت من خلق عالم كبير في مكان صغير، وعلى رأسها «بلانش دوبوا» التي قامت بالدور الممثلة الأمريكية جيسيكا لانغ (أو نعمة - نادية الجندي)، المدرسة التي جاءت من لوريل قرب الميسسبي (أو المنصورة) إلى نيو أورليانز (أو الاسكندرية) بأسباب غير متوقعة من الأخت «ستيلا» التي قامت بدورها دايان لين (ليلى - إلهام شاهين) مرحبة وفرحة بها بعد أن هربت الأخيرة بزواجها دون رغبة أهلها مع «ستانلي كولسكي» الذي قام بدوره أليك بالدوين (أو حسام - ياسر جلال)، وتتعرف على صاحبه ميتش الذي قام بدوره جون غوولد مان (عبدالفتاح - صلاح عبدالله) الذي تتوهم أنها ستبدأ معه حياة مغايرة تجعلها تتساوى، برضوخ وقبول على مضض ستعينها الظروف على التخلص منه لاحقاً. .. تبدو الحياة الزوجية البسيطة التي تقرب من الفقر، بالنسبة للحياة التي كان تعيشانها بلانش أو ستيلا (نعمة أو ليلى) كما هي اختارتها الأخيرة غير مقنعة لبلانش (أو نعمة)، وتشعر أن زواج أختها برجل أقل مستوى هو السبب الذي جعلها تقف بوجه هذا الزواج، على أن واحدة مثل بلانش تخفي وراء شخصيتها المعقدة بعض تلهف على علاقة عاطفية مشبوبة بين أختها وزوجها، وشعورها يقوى في تسليط الضوء بالكلام والسلوك على هذه الحياة التي لا تليق بامرأتين ولدتا في مستوى مغاير وحياة أرقى. .. استطاعت بلانش (أو نعمة) البقاء معهما وتتوهم تلك المحاولات في إخفاء هروبها من ماض تركته وراءها وجاءت الظروف لتذكرها بدفع ثمنه، فلم تستطع أن تنتهي من واقع أليم، كان وراء خسرانها أملاك أسرتها القصر والمزرعة في مزاد علني جراء رهن والدها أملاكه لصالح ديون لم تحصل حتى بعد وفاته، ثم زواج أختها وهربها من البيت رغماً عن الأسرة، وعلاقتها - أي بلانش (أو نعمة) - برجل انتهت في لحظة خصام عشقي نحو موته بحادث سير، واضطرارها بعد وفاة والدها وضياع أملاك الأسرة إلى أن تعمل في التدريس (في النسخة العربية تدرس اللغة الفرنسية)، وتحت ضغوط خسران القصر والمزرعة جراء ديون ثم وفاة الوالدين، وهروب الأخت ثم حادثة الرجل الذي تحبه واضطرارها العمل بالتدريس حتى ان وقعت في حادث أخلاقي مع أحد طلبتها ونتج عنه فصلها كذلك شكل فضيحة لها، فالآن هي بلا مأوى فالأملاك خسرت وبلا عمل فالحادثة كشفت وبلا أسرة فالوالدان ماتا والحبيب مات، وهذا ما جعلها تقع في دوامة نفسية أربكت سلوكها وتصرفاتها، وجعلها تقع في محظور أخلاقي بين الخطيئة بأنواعها السكر والدعارة في لحظة ضعف تمكنت من العقل فأطلقت الجسد لكن الأمر لم يطل لأنه غير متحصل لا في طبعها لتكون مومساً ولا في سلوكها لتصبح مكرَّسة فيه. .. كان الحل أمامها، على اضطرار وتخوف، هو أن تذهب إلى أختها بعد انقطاع ثلاث سنوات وإلى بيت الرجل الذي رفضته حينها زوجاً لأختها وهي تتطلع إلى قبول سكناها معهما. .. لم يكن ستانلي أو حسام واضعاً في حسبانه سوى استثمار أو استغلال هذه الجيئة منها متطلعاً نحو إثراء سريع لما يمكن أن تحصل عليه زوجته من ورث ينجيهما من جحيم السكن في غرفة واحدة والعمل بيديه، لكن ذلك لم يتحقق بعد أن كشفت له بلانش أو نعمة فقدها الأملاك في مزاد علني جراء ديون لم تحصل قبل وفاة والدها، وهنا ستنفجر تلك التضاديات في عناصر تتلمس مواقعها على صعد عدة تطول الجانب الطبقي (ثراء/ فقر)، والجانب السلوكي (النبيلة/ الساقطة) والجانب النفسي (الجلاد/ الضحية). .. ابتداء الثأر القديم عند ستانلي أو حسام يغلي ضد بلانش أو نعمة سواء في خيبته من الحصول على أي مبلغ مالي من ورث زوجته أو في اقتناص فرصة معرفته بالأخطاء السلوكية التي اقترفتها بلانش أو نعمة ليفسد زواجها من صاحبه ميتش أو عبدالفتاح.. فاغتنم فرصة تواجد زوجته في المستشفى أثناء مخاضها ليعود إلى المنزل مجهزاً على تحطيم بلانش أو نعمة بعد أن أسقط في نفسه خسرانه ثروة ترقبها أو إفساد زواجها بصاحبه لكونها صارت ساقطة لفترة - ولا مانع من أن تظل - ، فهو سيغتصبها في هذه اللحظة لتصل الدوافع والوسائل في لحظة حمأة تختلط وتنفجر، تلك التضاديات التي استعرت في سلوكه تجاهها، فلم ير في مجيئها اعتذاراً من رفضه سابقاً، ولم يراع أنه أساء لها بدل أن يحميها ويساعدها على تخطي انكسار حياتها السابقة إلى حياة أخرى بزواجه من صاحب، ولم يراع حرمة أنها خالة ابنه القادم فهي أخت زوجته التي ستغدو من محارمه اجتماعياً ودينياً، في النسخة الأمريكية صعدت هذه اللحظة إلى تعميقها من يهودية ستانلي (أليك بالدوين) وبولنديته، فيما لا يعطى لشخصية حسام (أو ياسر جلال) في النسخة المصرية سوى شخصية مسطحة جداً في مشاعر عنيفة بنت شارع وسلوك المقهور المنتقم في دور الديك بين الدجاج - كالمثل المصري: ديك البرابر- وهذا تجلى في مشهد الاحتفال بميلاد نعمة وتوبيخ زوجته ليلى لطريقة أكله الهمجية: «إذا فاكرين نفسكو برينسيسات (أميرات)، فأنا الملك». .. إذا كانت اللحظة النهائية ستتفق في شعور الشفقة على بلانش أو نعمة أما العداء فسيكون صوب ستانلي أو حسام من ميتش أو عبدالفتاح، فلن تنفق تلك اللحظة النهائية لموقف أختها ستيلا (داين لين) أو ليلى (إلهام شاهين)، حين سترضخ في النسخة الأمريكية أما في المصرية سوف تترك حساماً نهائياً وتمضي بابنها بعيداً.. .. بعض التفاصيل التي لزمت نقل الأجواء كالمكان والزمان وفقت إلى حد بعيد في رسم أرضية سينمائية أعطت الحالة الدرامية ألقها فمن لوريل إلى نيو أورليانز أو من المنصورة إلى الأسكندرية، ومن تغيير المهن كالمهندس الكهربائي والورشة إلى ذلك الشاب الذي جاء في النسخة الأمريكية ليجدد اشتراك مجلة تحول إلى موظف قارئ العداد الكهربائي، ومن صوت أجراس كنسية لتكون علامة مفارقة بين هاويات الجوانب الطبقية والسلوكية والنفسية حين تراها بلانش أجمل صوت آت من بعيد ذات الكلام إنما يتحول إلى أطهر صوت هو الآذان في النسخة المصرية عند نعمة. .. عندما كانت إلهام شاهين ترشح في أسلوب التمثيل الواقعي الذي لا يتطور بل تأتيه لحظات تصاعد مفاجئة على شكل تجاوب اختزاني لامران تمثيلي مبتكر، فيما لم تستطع دايان لين سوى التعبير بوجهها المتعب والحزين طيلة مشاهدها في الفيلم، وإذا كان أليك بالدوين ممثلاً من طراز كبير لا تخفى في طلته ذلك الوهج السينمائي الذي يطالعنا به النجوم الرجال في السينما الأمريكية مثل أنطوني هوبكنس ومارلون براندو أو نيكولاس كيج وميل جبسون، فهو عبر عن كثير من تفاصيل تلك الشخصية الشهوانية إلى الجنس بالعنف والشعور الناقص بالمستوى الاجتماعي في بعديه العرقي أو الديني، لكون تينسي وليامز وضع تركيبة شخصية رائعة لستانلي كولسكي كبولندي ويهودي في مجتمع أمريكي عرقه الأوروبي الغربي وديانته المسيحية، فيما لم يبذل رفيق الصبان في معالجته الدرامية وضع تصور شخصاني لحسام بل انه بدا في كثير من المشاهد أصغر سناً من إلهام شاهين فكان أقرب إلى أخ صغير لها منه زوجاً يحكمها!. .. استطاعت جيسيكا لانج السيطرة على نفسها مستغلة حالة جمود عينيها ورقتها بجسم ضئيل أوحى بامرأة منهارة توهم بتماسكها وهروبها إلى عالم يشتد إسارها به كلما ارغمت العيش في نقيضه، فتألقت في مشهدين رائعين استمدا من المسرح بلا جدال هو مشهد دعوة ميتش (أو جون غوودمان) لها إلى السينما، عندما رحبت به: «انظروا من أتى، فارسي وأزهار..! انحن أولاً.. ثم مد لي أزهارك»، والآخر الذي سجل انهيار الشخصية تماماً هو مشهد طلبها من موظف اشتراكات المجلة أن يشعل سيجارة لها، فيما تتلو عليه شعراً عن قطرات من الماء تتساقط لتنقذ حر نيو أورليانز، وتسأله عم شربه قبل قليل إذ يرتسم على قميصه اللون الأحمر، فأشار إلى أنه شرب كأس خمر بطعم الكرز (حولته النسخة المصرية إلى عصير مانجو)، فكانت القبلة التي منحته إياها، وحاولت النسخة المصرية تفعيل دور أغنيات تستجلب روح الرومانسية من الأربعينات كأغنية الفرنسية إديث بياف: «الحياة الوردية/ la vie en rose» التي وضعت خلفية رقص رومانسي بين نعمة وشادي أو أغنية من السبعينات فرنسية ايضاً للمغنية داليدا (الجذور مصرية وايطالية): «كلام أكثر هناك/ Parle plus bas» التي رافقت فيلم: «العراب/ Godfather» لتكون خلفية مشهد نعمة وعبدالفتاح. .. إذا ما تنبهنا إلى شيء في أداء نادية الجندي وجيسيكا لانغ هو التشابه ليس بسبب أن النسخة الأمريكية سابقة للنسخة المصرية بل قوة إيحاء شخصية بلانش دوبوا، فقد استطاعت كل من نادية الجندي وجيسيكا لانغ القبض على شخصية لا تشبههما، فنحن نعرف رقة وضعف الشخصيات التي قدمتها جيسيكا في كامل أفلامها، ونعرف عند نادية الجندي تلك المرأة القوية التي ربما تنهار لكن طموحها يعد بالمستحيل، فلسنا في صدد مقارنة أداء نادية الجندي المفارق في السينما المصرية كلها عن نوع أداء آخر كان يقدم المرأة المقهورة عاملة أو زوجة أو عشيقة أو خادمة، كما تجلت في شخصيات أمينة رزق، وفاتن حمامة ومرفت أمين ونبيلة عبيد، فيما تنتمي نادية الجندي إلى سلسلة ممثلات كن علامات على امرأة مغايرة ومختلفة تبحث عن موقع يختلف عما مرت به أو تعيشه سواها، فهي تنتمي إلى سلسلة تمثلها أسماء كبهيجة حافظ، وفاطم رشدي، ولبنى عبدالعزيز، وشيريهان.. .. استطاعت المعالجة الدرامية للفيلمين في نسختيه: الأمريكية والمصرية، الوقوف عند الأفكار الأساسية التي قام عليها النص المسرحي: 1 - تضادية الطبقة الأرستقراطية والكادحة. 2 - تضادية المرأة النبيلة والمرأة الساقطة. 3 - تضادية الجلاد الحقير والضحية المنكوبة. .. إذا كانت الفوارق الإلزامية في تكييف النص الدرامي المصري عن الأمريكي، هي تخدم السياق السينمائي العربي، فهي لا تغيب أن تكون أيضاً كسباً آخر للنص المسرحي الذي كتبه تينسي وليامز. .. وإذا عرفنا أن ثمة مشترك عميق - لم يكن معداً له أو توقعاً - بين لانغ والجندي هو ولادتهما في شهر متقارب ادعى إلى تشابه طبعهما فلكياً كذلك يشترك معهما مؤلف النص وليامز، فهل لو كانت شخصية بلانش دوبوا رجلاً في السينما الأمريكية وكذلك المصرية أكثر إثارة منها كانت شخصية امرأة، أعتقد اننا نذكر تلك المحاولة التي أعدها فريق ثلاثي عند انجاز فيلم: «شكبير عاشقاً - 1998» بين جوزيف فينس وجوانيث بالترو، حين تلمسوا كيف كتب شكسبير مسرحية «روميو وجولييت» من وحي حكاية تضمنت في خلايها السردية، عصر شكسبير والفارق الطبقي الذي جعله يحب واحدة ستتزوج من تاجر والتضييق على عمل المرأة في المسرح في القرن السادس عشر ثم اتفاقه الوهمي على مسرحية عنوانها لم يكن - بالطبع - روميو وجولييت، وصولاً إلى لحظة الافتتاح المسرحي وتمثيله فيها مع حبيبته التي صارت ممثلة أول وآخر مرة. .. ماذا لو فكر رفيق الصبان كتابة ذلك العمل من جديد مستوحياً حياة تينسي وليامز في طنجة ومصاحبته لمحمد شكري آنذاك وكلام شكري عن فوارق وليامز عن بول بولز ونظرة الغربيين سواء من أمريكا أو أوروبا نحو طنجة، وحياتها السياسية والاجتماعية الكوزموبوليتانية، فكأننا في مشهد من مشاهد مسرحية عطيل لشكسبير لكننا ربما ننتهي في احدى روايات نجيب محفوظ.. ليتك فعلت ذلك أيها الصبان..