تبدو الحياة سريعة وفي ديمومة من حمى الركض لا تنتهي، حتى إن الإنسان دائمًا في عجلة من أمره، ورغم كل مشاغله وازدحام جدوله بالمهام الضرورية وغير الضرورية التي تحولت بفعل الزمن إلى ضرورة ملحة، فإنه يبحث عن وقتِ فراغ، لا لكي يعيش بضع لحظات يخلو فيها بنفسه، بل ليجد الفرصة للعمل أكثر، أو لإنجاز أعماله المؤجلة. وتبدو المفارقة في أن احتساب تاريخ صلاحية الإنسان لم يعد رياضيًا، أي أن عمر الإنسان أصبح مجرد وحدة عمرية تُقاس بالأرقام، لا قيمة لها في زمنيته الحالية. لقد صار تاريخ صلاحية الإنسان يحتسب بمدى قدرته على قلب معادلات المضي في سيرورته المعتادة، وطريقته الأزلية في الذهاب نحو النهاية. ها قد أصبح الإنسان الجديد هو ذلك الذي يستطيع أن يؤدي دورًا فاعلًا في مجمل العملية الإنتاجية، وعليه أن يملك القدرة على الاحتفاظ بانفعالاته، وتكييف حساسيته الخاصة وقدراته الشخصية بآلية بحتة مع طبيعة واقعه المحيط. إنه إنسان آلي، لا وقت لديه للانفعال والتفاعل فيما لا يعنيه، ولا للمشاعر أو المجاملات العابرة، إنه يملك دافعًا واحدًا فقط. هذا الدافع (هو أن يعيش ليعمل، ويعمل ليعيش) لذا فإنه يحول كل ما يجده أمامه إلى محروقات تمده أو تمد آلته بالطاقة لمزيد من العمل والإنجازات والارتقاء إلى مراحل عليا حسب طاقته، بشكلٍ متسارع نحو مزيد من الإنتاج، نحو مزيد من العيش! ليس ثمة ما هو غريب، إن كل شيء قد تحول إلى مادة إنتاج للاستهلاك (الإنسان وما يستهلكه والإنسان وما يهلكه!) وقد استشرت هذه الصبغة الاستهلاكية في المعارف الإنسانية كافة، حتى صار كلما هو غير قابل للتحول إلى (معرفةٍ أو ثقافةٍ مالية إنتاجية) فاقد لقيمته! ليس الإنسان الجديد بأحسن من الإنسان القديم، وليس أسوأ منه. فكلاهما سيرته معادلات قيمية نفعية سار بها ولها كل منهما. إن الإنسان الجديد، أو الإنسان اللاهث كما يمكن أن يقال عنه، يبدو طيبًا في أعماقه، لكنه يحاول اللحاق بالركب، لذلك هو لا يجد الوقت الكافي ليؤنسن أفعاله التي حولته إلى آلة للإنتاج وسط آلة الزمن المتسارع. وهو لا يجد متسعًا من الوقت ليقضيه مع أسرته أو أصدقائه، ولا يقضي أفضل أوقاته بعيدًا عن التفكير في العمل على الأقل. إنه لا يملك حتى الوقت ليعترض على تراكم الأعمال، إذ يمكنه في الوقت الذي يضيعه في الاعتراض على الأعمال الموكلة إليه داخل -مؤسسته التي يعمل بها- أن ينجز المزيد من المهام (أن يعمل ليعيش وأن يعيش ليعمل) ليحافظ على تاريخ صلاحيته، للبقاء أكثر، فالقيمة الحقيقية لدى هذا النموذج الإنساني الملائم للقرن الواحد والعشرين، أن يناضل جاهدًا ليعمل وليبقى وليوجد وليعيش!