"طريق المختارة، زمن كمال جنبلاط" دار النهار سيرة مزدوجة، عرض فيها الكاتب سيرورته وتحوله، في معرض التأريخ للسياق السياسي والاجتماعي لصيرورة كمال جنبلاط وتطوره. ظل عزت صافي في مؤلفه"حزبياً"، غادر أناه الى"الأنا الأعلى"الجنبلاطية، فمشى في وارف ظلها، وحضر، هو الغائب، في ثنيات حركاتها وسكناتها... أراد ان يظل"ابن المختارة"، من نبع زمانه الى المحيط المتلألئ بالأنيق من الأسرار. اختيار كلمة الطريق، يستدعي لفظ التصوف وشيوخ الطريقة والمريدين. عزت صافي في كتابه مريد"مبتدئ"يجدّ في استكناه روح معلمه، بعد ان صار"رغيفه خميرة"، هكذا تظل"ام منير"كنهر دائب الحركة، ليظل خبزها وعملها"نبوءة وبشارة بما سيكونه عالم الغد". لكن لا مريد لا يقرب، الآن، الخبز، بل هو يكتفي بالسعي مكتفياً من جناه بسعادة التجلي، أليس الفعل، بحسب المعلم"أرفع تجل للعقل"؟ فإذا بلغ الوجد مرتبة الحلول امتلأت الروح وأترعت من ماء نزعاتها الإنسانية التي هي"الحرية والمعرفة والسعادة". اختيار الزمن وإضافته الى كمال جنبلاط، له مدلوله ايضاً. فالمضاف لا يعرف إلا بالمضاف إليه، بل ان الزمن يصير مخصوصاً ومحدداً بدقة عندما ينسب لكمال جنبلاط. ينطوي مصطلح الزمن على الحركة، وعلى التطور وعلى التحول، أي على ما يشكل دلالة اكيدة على"فعل الحياة"وعلى عيشها، وهو يضمر في الوقت عينه تتمته في المآل والمصبّ والذوبان في بحر الأنوات التي أشعلت أزمنتها واشتعلت بشوق نيرانها. وجها الموت والحياة، متضمنان في الزمن، ووجها الحركة والحرية يطبعان أوقاته..."الزمن كما الماء لا يمكن حبسه"وإن تأخر احدهما، فإن ذلك لا يشكل ايذاناً بإعلان اندماجهما وموتهما في... التوقف واللاحركة. لكن كيف كان زمن كمال جنبلاط"المادي"؟ وما العوائق التي تصدت، دائماً، لزمن كمال جنبلاط"التصوفي"؟ وهل كان ممكناً إقامة مصالحة بين ما أراده جنبلاط من السياسة، وما فرضته السياسة من قواهر عليه؟ نتعرف مع عزت صافي على كمال جنبلاط الاستقلالي، الذي انضم الى النفر اللبناني الذي رفض ممارسات الانتداب الفرنسي، مثلما نعرف جنبلاط التغييري، الذي وقف ضد الفساد في عهد الرئيس الاستقلالي الأول، الشيخ بشارة الخوري، فقاد ضده اضراباً مفتوحاً ادى الى خروجه من سدة الحكم. هاجس جنبلاط الإصلاحي رافقه لدى البحث عن رئيس جديد للجمهورية. وحين رُفعت كؤوس الترشيح لتشرب نخب كميل شمعون، حرص جنبلاط على إلزامه بتعهد موقّع، كان شاهده الجنرال فؤاد شهاب، وتبين لاحقاً ان عهود السياسة لا أمان لها، فثقل المصالح المادية، والوقائع، يطيح دائماً"بكلمات الشرف"التي تعطى في برهة مصلحة شخصية عابرة. عرف كمال جنبلاط، مع ابن جبهته شمعون، استعمال السلاح، هو الداعي"الى اللاعنف وعدم المبادرة إليه". والمحذر في الوقت عينه بأنه"لن نكون متسامحين إذا ما تعرضنا لاعتداء بالعنف، ولم يطبق القانون"، لقد تصدى جنبلاط لحليفه السابق، عندما اتجه شمعون غرباً، وسعى الى ربط لبنان بأحلاف تضر بنسيجه الداخلي وبعروبته، وعندما تلاعب"بصحة التمثيل الشعبي"من خلال قانون انتخابي مفبرك، لا هدف له إلا تأمين تجديد الرئاسة الشمعونية، نكث شمعون بوعوده الإصلاحية، وارتد عن صفة"فتى العروبة الأغر"وسمح بتسرب روح طائفية الى اللبنانيين وغذاها - كل ذلك سوّغ لجنبلاط اللجوء الى أبغض"الدفاع"عنده فكان ما كان قبيل العام 1958 من مقومات احتقان سياسية وما تلاها من انفجارات مدوية خلال السنة ذاتها. آنس الزعيم الجنبلاطي المقيم على تحفز دائم، من الرئيس فؤاد شهاب، روحاً إصلاحية واستعداداً للعمل يتجاوز ممارسات ورؤى من سبقه في القصر الجمهوري، فلم يتأخر في دعمه، ودافع عن التجديد له"ولاستكمال ما بدأه من إصلاح"، فلما تعذر أمر التجديد، لم يضق جنبلاط ذرعاً بالرئيس شارل حلو، الذي اعتبر لفترة، استمراراً شهابياً في الحكم، لكن ذلك لم يطل، فانقلب"زعيم الجبل"على القادم الجديد وفتح"له كل الملفات". إلا ان"مساندة الشهابية"، ثم الانتقال الى التمييز بينها وبين صاحبها فؤاد شهاب لم تمنع جنبلاط من تركيز حملته على ممارسات ضباط"المكتب الثاني"، هو الذي لم يثق ب"العسكر"، بل ظلّ على توجّس منهم، أبداه مثلاً عند نجاح"ثورة الضباط الأحرار"في مصر، فتريث في الحكم على الثورة حتى يستبين ممارسات أبطالها. مع انتخاب الرئيس سليمان فرنجية"انتهت الشهابية، وسقط الرهان على مشروع استكمال الدولة"، ومع الرئيس الياس سركيس، كان لبنان قد دخل في نفق الوصاية السورية، التي استشهد كمال جنبلاط قبل ان يُقدّر له رؤية زمان زوالها. محطة تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، تشكل مفصلاً تأسيسياً في توجهات كمال جنبلاط، ففي المسعى هذا انتقال من حالة الجنبلاطية التي هي"شبه حزب منظم من دون نظام"، الى العمل المنظم الضروري لمواجهة الظرف السياسي الناشئ زمن التأسيس، فقيام إسرائيل فوق أرض فلسطين شكّل تحدياً قومياً عربياً شاملاً، كان للبنانيين منه النصيب الأوفر، والفساد الذي رافق عهد بشارة الخوري استدعى تنظيم جبهة إصلاحية مضادة له، ونشوء الأحزاب اليسارية والقومية والتقدمية، املى على جنبلاط ضرورة المبادرة الى تأسيس"حزبه الخاص"، لقد شكّل الحزب"التطوعي - الطوعي"الذي أنشأه"المثقف الجنبلاطي"خطوة في اتجاه تجاوز حالة المثقفين، الذين"تعوز معظمهم روح المسؤولية وتنقصهم إرادة العمل وتستحوذ عليهم رغبة الكلام... لقد أراد"الأرستقراطي"في جنبلاط، النزول الى الشعب ومعايشته من خلال حزب بدأ فقيراً بكل إمكاناته المادية، لكنه كان واعداً"بغناه السياسي والاجتماعي"وبتنوعه اللبناني، الذي ضمن للحزب فترة طويلة من صفة الحزب العابر للطوائف... هكذا تخطى الارستقراطي والمثقف في شخص كمال جنبلاط"الأرستقراطية الجديدة، المثقفة، التي تبدو كسولة في كثرتها وهي عبء على الأمة وثقل على الأحزاب". لقد أراد جنبلاط"ان يكون انساناً وهذا كل شيء". محطة أخرى كانت وازنة في حياة جنبلاط هي محطة الحقبة الناصرية، فلقد اقام مع الرئيس جمال عبدالناصر، علاقة تكافؤ وتعاون، واستجاب للحس والدافع القوميين لديه عندما رحب بدولة الوحدة التي اقامتها مصر وسورية، مثلما حذر من انعكاسات انهيارها على الوضع اللبناني، لقد رأى جنبلاط في انفتاحه القومي ترجمة لرؤيته القومية التي عبّر عنها بقوله:"ان للقومية دوراً في تقوية المجتمعات الحرة او في تقويضها"، وعليه فقد احتفظ للبنانيته بموقع خاص، خارج كل قسر قومي، وخارج كل قولبة وحدوية، انتظاراً منه"حتى تعم الديموقراطية والعلمانية والاشتراكية"، ليكون بعد ذلك ممكناً للبنان الانضمام"فيديرالياً"الى المنظومة العربية، فالحل الوحدوي كان في نظر جنبلاط، كامناً في اتحاد عربي فيديرالي. على هذه الخلفية القومية، تصدى جنبلاط للأحلاف التي حاول"اليمين اللبناني"ربط لبنان بها، مثلما تصدى لكل تنكر للقضية الفلسطينية، التي آزرها منذ البداية، وذهب في دعمها الى"أقصى الحدود اللبنانية"ومعها خاض تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، وبرفقتها تصدى للدخول السوري الى لبنان، عندما بات الأميركي في موقع الآذن لهذا الدخول، وكان الإسرائيلي في موقع المتفهم للدواعي الأميركية، وكان العربي الرسمي في وضعية غض الطرف عن اشتعال الساحة اللبنانية كساحة حروب بديلة. تستحق فترة الحرب الأهلية اللبنانية وقفة أطول، لدى استعراض سيرة كمال جنبلاط، فهذه الحرب بمقوماتها التي بدأت تباشيرها ونذرها بعد هزينة العرب عام 1967 تشكل المحطة الأغنى في مسيرة جنبلاط والتحول الأبرز فيها. من إنصاف جنبلاط القول انه كان ابن التشكيلة اللبنانية، شاكسها من داخلها، وناكفها على أرضيتها وحاول إصلاحها من داخلها، لكن التشكيلة ضاقت به بسبب ضيق أفقها وانسداد قنوات التسوية المتقدمة فيها لذلك لم ينفع جنبلاط تشديده على"انتخاب الصفات في المرشح وليس انتخاب ابن العائلة"بل ان العائلية والطائفية ظلتا في موقع التحكم باليوميات اللبنانية، مثلما ظل النظام الطائفي"الحاجز الأهم"، لذلك ردد جنبلاط بمرارة على شمعون:"أنا صاحب الفخامة وأنت الرئيس"، كان ذلك بعد تنحي بشارة الخوري بفعل الاضراب الذي قاده جنبلاط! في الوقت نفسه، لم تنفع جنبلاط حكمة غاندي التي طالما رددها"محبتي للحقيقة ارشدتني الى جمال التسوية في كل أمر"، فالحقيقة ظلت نسبية لدى"أمراء الطوائف"، بل هي فصلت الى"حقائق استنسابية"جزئية، قرئت، وما زالت بعيون التاريخ، الخاصة وفي ضوء المصالح الشديدة الضيق، وعليه قدّر لجنبلاط ان يخرج على"نظامه"خصوصاً في"حرب السنتين"بين 1975 وپ1976، وأن يلقي بأرستقراطيته"وربطة عنقها"خارج منظومة يومياته وأن يعتمر الكوفية العربية ويلف عنقه بها. لقد بلورت سنيّ الحرب الأهلية شخصية جنبلاط الشعبية وصقلتها، مثلما أعطى"ابن الجبل"للحركة الشعبية قيادتها النافذة، وظللها بعباءته في مناطق نفوذه الأصلية، هكذا تبادل"الطرفان"الدعم، وتناوبا على مواقع التأثر والتأثير بما يسمح بالقول ان"كمالاً"آخر ولد بعد التجربة الأهلية تلك، وأن حركة شعبية أكثر تقدماً كسبت قيادة تاريخية لها، من موقع الائتلاف والاختلاف وعلى خلفية التنوع والتعدد وعدم الاختزال. ثمة ما يستدعي التدقيق في تلك الفترة، لجهة الأدوار، فمن غير المنصف ان يتغاضى الكاتب عن الدور الفلسطيني والدور الحزبي في حرب الجبل، وأثناء التصدي للدخول السوري، ففي ذلك مخالفة لحقائق الواقع وانتقاص من قيادة ووزن جنبلاط اللذين كانا موضع تسليم وتقدير كبيرين. لقد عاد جنبلاط وحركته الوطنية وحيدين بعد ان جرى تلزيم وضع لبنان الى"شقيقته الكبرى سورية"لكنه لم يكن مفرداً أو مستفرداً، بل هو حفر عميقاً في وجدان اهله، وظل مشروعه الإصلاحي طموحاً ومخرجاً امام اللبنانيين، ولو جرى الانتقاء منه في غير زمانه، ومن دون قواه الأصلية. لقد مشى جنبلاط الى"قدره"لأنه آمن بقول الفيلسوف بران:"إن أنت وهبت كل ما تملك وادخرت حياتك فكأنك لم تعط شيئاً"ظل جنبلاط كبيراً في عطائه فأعطى ذاته التي لم يستطع احد"أن يخنق كلمة الحق فيها".