إنها السياسة التركية - العثمانية المُتسامحة مع الهجرة اليهودية، والتي زادت في تسامحها كثيراً في عهد عبدالحميد الثاني خلال فترة حكمه من 1876 إلى 1909م لتشهد عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين كثافة لم تكن مسبوقة من قبل، خصوصاً خلال العشر سنوات من 1881 إلى 1891م.. كما هو متوقع من أصحاب الاستثمارات السياسية غير الأخلاقية في استغلال المآسي الإنسانية، خرج على العامة رئيس تركيا أردوغان بعد إعلان "خطة ترمب للسلام" أو ما يطلق عليها إعلامياً "صفقة القرن" مُتباكياً على حال فلسطين وما يتعرض له الفلسطينيون من ظُلم واضطهاد، ومُتأسفاً على وضع القدس التي أصبحت تحت الهيمنة الإسرائيلية، ومُتهماً الدول العربية والإسلامية بعدم تباكيهم مثله على فلسطين. فِعلاً هذا الذي جاء به أردوغان، بحسب وكالة الأناضول في 31 يناير 2020م، حيث قال: "لا نعترف ولا نقبل بهذه الخطة التي تدمر فلسطين بشكل تام وتحتل القدس بالكامل.. القدس هي مفتاح السلام العالمي كما كانت منذ آلاف السنوات، إذا سقط رمز السلام فإن مسؤولية ذلك يقع على عاتق العالم بأسره.. إن لم نتمكن من حماية خصوصية المسجد الأقصى، فلن نتمكن غداً من منع تحول عيون الشر نحو الكعبة، لذلك نعد القدس خطنا الأحمر.. إن ترك مصير القدس لمخالب إسرائيل الدموية سيكون أكبر أذى يلحق بالبشرية جمعاء. ... أحزن عند النظر إلى مواقف الدول الإسلامية، وعلى رأسها السعودية، حيث لم يصدر منها أي تصريح رافض لصفقة القرن، فمتى سنسمع صوتكم؟.. إن مثل هذه الدولة المارقة إسرائيل التي تعدم الأبرياء في الشوارع، لا يمكن أن تكون في نظرنا دولة صالحة أبداً." فعلاً إنك أمام أردوغان المُستثمر السياسي الأبرز لمآسي الفلسطينيين، والمُحرف التاريخي الأشهر لمواقف العرب التاريخية تجاه القدس، والمُضلل الأكثر كذباً وتدليساً لمسيرة التاريخ بماضيه وحاضره. نعم إننا أمام أردوغان الذي اعتقد بأن استخدامه للكلمات والعبارات العاطفية وتوظيفه للشعارات والرموز الإسلامية سيغير حقائق التاريخ التركي المتآمر على فلسطين والفلسطينيين، أو يمحو من سجلات التاريخ التهاون التركي - العثماني الكبير تجاه الهجرة اليهودية إلى فلسطين وما تبعها من سياسات أدت فيما بعد إلى تهويد القدس وباقي الأراضي الفلسطينية. إنه التاريخ المعيب للدولة التركية -العثمانية تجاه فلسطين والفلسطينيين الذي يريد أردوغان محوه من الذاكرة العربية والإسلامية؛ وإنه الواقع المُخزي للسياسة التركية - وريثة العثمانية - تجاه فلسطين والفلسطينيين الذي يريد أردوغان التغطية عليه، وصد أنظار العرب والمسلمين عن رؤية حقيقته. إنها السياسة التركية-العثمانية بماضيها المُعيب وحاضرها المُخزي التي أدت إلى كل هذه المآسي الإنسانية التي يعاني منها الفلسطينيون تحت الاحتلال الصهيوني الذي يمارس تجاههم شتى أنواع الظلم والقهر والاستبداد. إنها السياسة التركية -العثمانية التي هيأت الظروف المُلائمة والمناسبة للهجرة اليهودية إلى فلسطين، خصوصاً خلال القرن التاسع عشر، عندما كانت تحتل الوطن العربي وتسيطر على خيراته ومقدراته على مدى ستة قرون. إنها السياسة التركية -العثمانية المُتسامحة مع الهجرة اليهودية، والتي زادت في تسامحها كثيراً في عهد عبدالحميد الثاني خلال فترة حكمه من 1876 إلى 1909م لتشهد عمليات الهجرة اليهودية إلى فلسطين كثافة لم تكن مسبوقة من قبل، خصوصاً خلال العشر سنوات من 1881 إلى 1891م. وبالإضافة إلى هذه السياسة المُتسامحة مع الهجرة اليهودية الكثيفة إلى فلسطين، تطور الأمر من حالة التسامح إلى حالة التآمر العملي على الأراضي الفلسطينية؛ وهذا الذي يمكن فهمه، بشكل أو بآخر، من النص الذي جاء في كتاب "دراسات فلسطينية: تاريخية – سياسية" الصادر في 1988م للمؤلفين د. إسماعيل ياغي ود. نظام بركات، وتضمن التالي: "وانكفأ عرب فلسطين على التصدي للهجرة اليهودية ومخططات الصهيونية، ففي مايو 1890م قام وفد من وجهاء القدس بتقديم عريضة واحتجاج للصدر الأعظم (رئيس الوزارة العثمانية) ضد رشاد باشا (الذي حل محل رؤوف باشا كمتصرف لسنجق القدس) الذي أبدى محاباة للصهاينة وتحيزاً لهم. وعاد وجهاء القدس في يونيو 1891م، فأرسلوا إلى الصدر الأعظم في الآستانة، احتجاجاً طالبوا فيه بإصدار (فرمان) يمنع هجرة اليهود وتحريم استملاكهم للأراضي الفلسطينية، بعد أن لاحظوا بداية النشاط الصهيوني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين." (ص:118). فإذا أضفنا إلى هذه السياسة المُمَنهجة القائمة على تسهيل الهجرة اليهودية، سياسة تركية - عثمانية أخرى تقوم على التدمير والتجهيل المُمنهج للوطن العربي، والاستهداف المباشر للعرب بالتهجير والترحيل مع انعدام الخدمات التعليمية والصحية، ندرك تماماً بأن قيام دولة إسرائيل على أسس يهودية إنما هو نتيجة لتلك السياسات التركية - العثمانية التي قامت على عنصرين أساسيين هما: (1) فتح الباب للهجرة اليهودية ومنحها الامتيازات الكاملة المتضمنة الحق في التعليم والصحة والسماح باستثمار الأموال والخبرات؛ و(2) تدمير وتجهيل وتهجير العرب لكي لا يعارضوا السياسة التركية -العثمانية ولا يستطيعوا مقاومة الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين. وكنتيجة طبيعية لهذه السياسات التركية - العثمانية المُتماشية مع التوجهات الصهيونية تجاه فلسطين، جاء اعتراف تركيا بقيام دولة إسرائيل مُبكراً جداً، وقبل أن يمضي عام على إعلان قيامها، حيث أعلنت ذلك في مارس 1949م. هذا الاعتراف السريع، بحد ذاته، يدُل بأن هناك مؤامرات ومخططات كبيرة تم الاتفاق عليها خلال القرن التاسع عشر بين الأتراك - العثمانيين مع اليهود والصهاينة لتنفيذها على أرض فلسطين بشكل خاص، والوطن العربي بشكل عام حتى يتحقق الحلم اليهودي بقيام دولتهم على أرض فلسطين؛ وهذا بالتحديد الذي حصل في العقود التالية للقرن التاسع عشر. لذلك فإنه من غير المستغرب ما نشاهده في وقتنا الحاضر من توطُّد وعمق وحميمية في العلاقات التركية - الإسرائيلية على كافة المستويات، وفي كل المجالات السياسية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية والصناعية، وفي مجالات الطيران والخدمات وغيرها من مستويات ومجالات متعددة ومتنوعة ومتشعبة. إنه الواقع القائم والحاضر المُشاهد الذي يعبّر مباشرة عن سياسات تركيا المُتماشية تماماً مع التوجهات الصهيونية - الإسرائيلية على أرض فلسطين. إنها الحقيقة المُخزية التي يريد أردوغان طمسها والتغطية عليها بالخطابات الثورية والشعارات الإسلامية والكلمات العاطفية. وفي الختام من الأهمية القول: إن سياسات الكذب والتدليس التي تُمارسها تركيا، وخطابات وشعارات أردوغان العاطفية والإسلامية ليست إلا حلقة من حلقات المؤامرات التركية التاريخية لتصفية القضية الفلسطينية من أساسها، والسعي لمحوها من الذاكرة العربية من خلال سياساتها المُستمرة، وحرصها الدائم على تفتيت الوطن العربي، واستهداف دوله الرئيسية وأعمدته الأساسية، وتشويه صورة قادته وسياسييه أمام الرأي العام. إنه المُستقبل المُظلم الذي تريدنا تركيا أن ندخله لتتمكن من جديد من فرض هيمنتها وسيطرتها التامة على الوطن العربي؛ وما توظيفها للقضية الفلسطينية إلا بوابة تنفُذ من خلالها إلى جسم الأمة العربية الذي أنهكته المؤامرات الخارجية والخيانات الداخلية. إنها تركيا - العثمانية التي كانت وما زالت تنتصر لليهود وللصهيونية بالأعمال والأفعال والسياسات الواقعية؛ بينما تنتصر للفلسطينيين بالخطابات الثورية، والكلمات العاطفية، والشعارات الإسلامية التي تزيد من تفتيت وتقسيم وحدة الصف الفلسطيني والعربي؛ وهو الهدف الذي كانت وما زالت تسعى لتحقيقه.