في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شهدت الدولة العثمانية تحولات جذرية في مجال قوتها وسيطرتها على الأراضي التي كانت احتلتها، وبخاصة على الساحل الشرقي من البحر المتوسط، الذي كان أصلاً محط أنظار الدول الاوروبية منذ الحملات الإفرنجية الصليبية، وحتى استعمارها بقوة السلاح، حيث شكلت هذه الحقبة الزمنية الوجه الحقيقي للمسألة الشرقية، في شقها الثاني الذي أدى إلى تنافس الدول الأوروبية على وراثة تركيا الرجل المريض وتقسيم ممتلكاته. وفي هذا الصدد تشير الدراسات المتعلقة بموضوع الاستيطان اليهودي في فلسطين، إلى وجود جملة من العناصر والأدوات والتداعيات المحلية والإقليمية والدولية، أسهمت بدور محدود ومؤثر في إذكاء الهجمة الاستيطانية وتفعيلها، وتوجيهها نحو فلسطين الوطن الأصلي التاريخي للفلسطينيين، كما شهدت تحولات جذرية في الفترة ما بين 1840 وحتى 1914، وهي الفترة التي تمثل موضوع الدراسة من حيث الحدود الزمنية التي يتطرق إليها كتاب الباحثة نائلة الوعري الموسوم بپ"دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين 1840 - 1914"الصادر حديثاً عن دار الشروق - عمان. ويمكن القول إن عام 1908 كان فيصلاً في المسألة الصهيونية على المستويين العالمي والعربي، ذلك أن هذه الفترة التاريخية فرضت على واقع الأحداث مناخين سياسيين، كان الأول منهما مرتبطاً بالدولة العثمانية، حيث جاء زوال نظام السلطان عبدالحميد الثاني على أيدي الاتحاد والترقي، ليشكل آمالاً جديدة أمام الحركة الصهيونية، بعدما كانت يئست من تحقيق برنامجها الذي أُنجز في مؤتمر بازل في سويسرا عام 1897، وتبنى مهمة تنفيذه ثيودور هرتزل، بسبب جملة من المعوقات والمصاعب السياسية الكثيرة التي واجهت هذا البرنامج، وبخاصة موقف الدولة العثمانية ذاتها منه. وقد تجلى رد الفعل العثماني على النشاط القنصلي الذي تأجج واستمر، منذ بدايات العقد الرابع من القرن التاسع عشر بوضوح، عندما أخذت النشاطات والفاعليات الاستعمارية تتصارع من أجل تحقيق مكاسب لها داخل الدولة العثمانية، وكانت بريطانيا قد جعلت مسألة التوطين اليهودي وسيلة من وسائل تحكمها في ما عرف بالمسألة الشرقية، وفرضت سيطرتها على بلاد الشام بهدف التحكم في طريق الهند التجارية. هذا في حين شهدت الحقبة الزمنية الممتدة من عام 1840 وحتى عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، تغيرات متلاحقة على الصعيدين العربي والدولي، في ما كان يعرف بإشكاليات المسألة الشرقية في شكلها الثاني، إذ خلال سبعة عقود ونيف مرت منذ عقد مؤتمر لندن، تداعت جملة من الأحداث والتحالفات والتقاطعات، شكلت في مجملها الأرضية الخصبة لإعادة تشكيل الولايات العربية، بحسب الفهم العالمي وتحديداً الأوروبي لمستقبل المنطقة العربية، بحيث بنيت حسابات تلك الدول على أساس مصالحها الحيوية أولاً. لقد كان دور قناصل الدول الأوروبية في كل من سورية ولبنان وفلسطين مهماً وسافراً، في مجال الدعم المباشر لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بل يمكن القول إنهم كانوا بمثابة العرّابين للتأسيس للوجود اليهودي، وبالتالي إقامة دولتهم على أرض فلسطين. وفي هذا السياق ترى المؤلفة وجوب تسليط الضوء على بعض المواقف العثمانية من قبيل: إدراك السلاطين العثمانيين وولاتهم وأركان الحكم في الدولة العثمانية، ما أريد لهم وما حيك ضدهم من مؤامرات، في حين كانوا أضعف من أن يحولوا دون الوقوف في وجه الزحف الاستعماري الأوروبي وبخاصة البريطاني والفرنسي والألماني، وما استطاع السياسيون والديبلوماسيون والبعثات القنصلية تحقيقه من أجل تنفيذ الأحداث والسياسات الاستعمارية في الولايات العربية وبخاصة في بلاد الشام. من هنا تتوصل المؤلفة الى النتيجة الآتية: أن ما يمكن التشديد عليه بالنسبة الى الحقائق التاريخية، أن قناصل الدول الأوروبية في القدس ودمشق قد أسهموا في شكل مباشر في تحقيق الحلم الصهيوني، وساعدوا في إرساء القواعد الأولى للأطماع الصهيونية في فلسطين، وهكذا التقت المصالح الاستعمارية الأوروبية مع الأطماع السياسية والإستراتيجية للحركة الصهيونية، ولعل هذه المعطيات كانت أحد أبرز أسباب فشل العثمانيين في إنجاز تطلعاتهم في وقف الزحف اليهودي إلى فلسطين. ويمكن رصد النفوذ الذي مارسه القناصل لتمرير السياسات الاستعمارية الأوروبية، والتمهيد لتحقيق الحلم الصهيوني بالذات في نهاية القرن التاسع عشر، عندما مارسوا أفعالهم المريبة تحت وطأة السلطة والقدرة والتدخل في أدق تفاصيل الحياة المدنية، وقيامهم بدور الوسطاء في ما بين أعيان المدن والحكومة ونوابها وبين الأهالي وبين اليهود لتسهيل شراء الأراضي، وكان هذا الصعود المتسارع لقناصل الدول، وما يؤكد هذه القضية أن الاضطرابات الكبرى التي وقعت في كل من حلب عام 1850 ونابلس عام 1856 ودمشق عام 1860، وما تلى ذلك من مداخلات أوروبية واسعة في المجال الاقتصادي وإغراق الأسواق بالسلع الأوروبية وإقامة المشاريع الاستثمارية مثل خط الحديد الذي أقامه الألمان في فلسطين، وما نجم عن التدفق الكثير لليهود عبر موجات الهجرة اليهودية، كل ذلك كان بمثابة الأرضية الخصبة التي قادت إلى فرض الاحتلال البريطاني المباشر لشرق الأردنوفلسطين والعراق والاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان خلال الحرب العالمية الأولى. وعلى رغم أن فلسطين لم تشهد حركة مقاومة منظمة، يمكن أن تقف بقوة أمام المشروع الصهيوني، طوال الفترة ما بين 1878 و1908 وهي فترة حكم السلطان عبدالحميد الثاني، فقد حذر العرب في البرلمان العثماني السلطان من خطر الحركة الصهيونية، وكان هؤلاء العرب من فلسطين: روحي الخالدي وسعيد الحسيني ونصري العسلي، وفي برقية أرسلت إلى الصدر الأعظم في حزيران يونيو من عام 1891 طالبوا فيها بإيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومنع استيطانهم فيها، وفعلاً استجيب طلبهم، وصدر فرمان أمر سلطاني في 1 تموز يوليو يمنع اليهود من شراء الأراضي في كل الولايات العثمانية. وفي مراجعة شاملة للنظرة الأوروبية الى الشرق بعد عام 1840، يجد المرء أنه امام سلسلة متلاحقة من الأحداث والمؤشرات التي يمكن الأخذ بها في الحديث عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي ظهرت في شكل مبسط، بعد أن خضعت فلسطين للحكم العثماني في أوائل القرن السادس عشر، فقد اندفع يهود أوروبا وتحديداً من أواسطها نحو فلسطين بدافع ديني بحت استهدف الإقامة في القدس وصفد والخليل. وقد انحصر شكل الهجرات الإسرائيلية في حدود هذا الوضع حتى منتصف القرن الثامن عشر. وقد أظهرت كتب التاريخ أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين بدأت تعمل في شكل علني بعيد عام 1860، عندما سعى يهود ألمانيا إلى القيام بحركة هجرة إلى فلسطين قادها"هوفمان"اليهودي الألماني وجعلها مغلفة بغلاف ديني، حتى نجح عام 1868 في الحصول على ترخيص من السلطان عبدالعزيز بإنشاء أول مستوطنة زراعية يهودية ألمانية. ومع التأكيد مرة أخرى أن موقف الدولة العثمانية، إزاء هذه الهجرة الاستيطانية اليهودية وإقامة مستوطنات زراعية على أرض فلسطين، لم يكن في المستوى المطلوب، لكونه كان موقفاً غير حازم، بل متساهل إلى حد بعيد تحت ذريعة أن العثمانيين كانوا يرون في هذه الهجرة أنها لا تشكل خطراً يمكن أن يهدد فلسطين، بل انه جاء على أرضية الرغبة في إحداث تطوير للوضع الاقتصادي للدولة العثمانية، التي كانت تواجه حالاً من الضعف والوهن في تلك الفترة من جهة، وإنماء الوضع الزراعي وتطويره في فلسطين، وهو مدخل رأت فيه المؤلفة أنه شكل أرضية خصبة لفتح أبواب الهجرة اليهودية على مصاريعها بالاستناد إلى هذا الطرح. ومع الإقبال المتزايد لليهود نحو فلسطين، قادمين من روسيا وبولندا ومنطقة البلقان، تزايدت شراسة القناصل وألاعيبهم في توفير وسائل الاستيطان وتهيئة سبل العيش لهؤلاء، فقد جاء في تقرير لمتصرف القدس الذي عين حديثا عام 1904 كان أعده لإرساله الى اسطنبول، ومحفوظ اليوم في الإرشيف الصهيوني، ويشتمل على أربع صفحات:"إن حركة وصول اليهود تزايدت في شكل كبير، مما يوحي بحجم المؤامرة التي كان أطرافها: القناصل ووكلاؤهم وكبار الملاك وكبار موظفي الإدارة المحلية المرتشين". ففي متن هذا التقرير يقول كاتبه:"سبق أن أبلغتكم أنه كلما زاد عدد اليهود المهاجرين القادمين من روسيا بسبب الاضطرابات والقلاقل المستمرة هناك، يزداد عدد اليهود القادمين من النمسا ورومانيا، وعلى رغم أنهم مطاردون ومبعدون من بلادهم ويدخلون إلى فلسطين كأجانب، فإن القناصل يعطونهم حماية لا مثيل لها". أخيراً تخلص المؤلفة إلى حقيقة مفادها، أن الحركة الصهيونية والجمعيات اليهودية التي انتشرت في معظم الدول الأوروبية وعلى أرض فلسطين، قد لاقوا جميعاً دعماً منقطع النظير، ومجالاً حيوياً قوياً وسنداً من جانب الدول الأوروبية مباشرة أو عبر جهود وأنشطة قناصل تلك الدول حتى كانت بداية عام 1914 المنطلق الحقيقي نحو إقامة الدولة اليهودية، لتختتم بحثها القيم المسنود بالوثائق التاريخية الإرشيفية بالقول إن فلسطين في تلك الحقبة التاريخية التي تحدث عنها الكتاب، وقعت ضحية المؤثرات الآتية: الموقع التاريخي والجغرافي باعتبارها تتوسط العالم وممراً لحركة الحضارات والثقافات، والمكانة الدينية باعتبارها مهد الديانات السماوية.