سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سؤال أسال حبراً عربياً كثيراً : هل "الاتحاد والترقي" والأتاتوركية صنيعا "المؤامرة اليهودية" فعلاً ؟
نشر في الحياة يوم 08 - 02 - 1999

ليست جديدة مماثلة اليهود بالأتاتوركية، ومن قبلها "الاتحاد والترقي"، مع اشتقاقهما من الأولى، ولو أن المماثلة هذه تفشّت في السنوات الأخيرة مع صعود الأصولية الدينية، وصارت من موضوعاتها الثابتة. فانقلاب "جمعية الاتحاد والترقي" في 1908، عزّز لدى العرب فكرة المماثَلة بين المشروعين الصهيوني والتركي التحديثي الذي سريعاً ما اصطدم بمطالبهم الذاتية. ولم يكن يصعب العثور على قرائن واقعية، تم اخضاعها لقراءة خرافية، في ما يطول علاقة اليهود والمحافل الماسونية بالانقلابيين.
هكذا نظر المسلمون من ثقب هلعهم الى التحول الكبير للسلطنة وموقعها في العالم، ناهيك عن القوميات والدول التي انبثقت منها، والحروب الإقليمية والكونية التي خاضتها على هذا الطريق. وفي السنوات التالية التي نجح خلالها أتاتورك في أن يبني، بطريقته، الأمة - الدولة التي عجز عنها عرب المشرق، تأكدت خرافية النظرة المشوبة بالإحباط والمرارة لأصحابها.
بيد أن هذا كله، وبغض النظر عن مدى الواقعي فيه، لم تكن بداياته متاحةً لولا الانفجار التعبيري الذي حصل على أثر الانقلاب. فما فعلته "تركيا الفتاة" أنها أعطت المواطنين والرعايا حرياتهم في التعبير السياسي، وسمحت بتشكيل الأحزاب جاعلةً من السهل على المجموعات أن تصوغ مشاعرها الغاضبة، وأن تخرج بخلاصات برنامجية ملائمة تحاول أن تعبىء الجماهير من حولها.
لقد حرّر الانقلابُ المكبوتَ مديداً وفي الاتجاهات كلها، بعد طور حميدي انتكس معه ما كان من تسامح عثماني نسبي آن بدا من الممكن تطويره الى بدايات تعددية. ففي مجال الصحافة، مثلاً، وهو ما أتاحه قانون وُضع له مستوحى من قانون 1881 الفرنسي، ارتفع في 1909 عدد الصحف والمجلات التي تصدر في السلطنة الى ما لا يقل عن 350. وفي 1911 غدا هناك 9 يوميات تركية تُنشر في اسطنبول، و21 صحيفة غير تركية. وفي 1912 أضحى ثمة 113 جريدة تركية في الأقاليم والمحافظات و115 عربية. حتى الإسلاميون الحميديون من خصوم "الاتحاد والترقي" كانت لهم صحفهم المعارضة الكثيرة وكان أشهرها "البركان" في التركية Volkan التي ألهبت الانتفاضة الشعبية الرجعية في 1909.
وإذا كان الحرف المطبوع والتشكيل السياسي من شروط زعم القوميين قوميتَهم، فإن سياسة التتريك التي سريعاً ما صارت سياسة المجموعة الحاكمة، كثيراً ما ساهمت في تصليب مواقع عرب المشرق بوصفهم عرباً.
لكن الجو لم يكفهر فجأةً. لقد استغرق بعض الوقت قبل أن يضع العرب في مواجهة التحديث والدمقرطة البادئين، ويربطهما، في النظرة العربية، بخصومهم. فحين وصل "الاتحاد والترقّي" الى السلطة "كنتَ ترى المسلمين يعانقون المسيحيين واليهود ويدعون بعضهم بعضاً الى الحفلات والمآدب"، كما كتب زين زين. وكثيرةٌ هي القصائد التي وضعت في وصف "الفجر الجديد" و"الأخوّة العثمانية" المتجددة، شاملةً اليهود مثلهم مثل سائر الجماعات. ويتحدث يوسف الحكيم عن القدس حيث كان، في 1910، عضواً في محكمتها البدائية، فيسجّل أن أهلها "الودعاء كانوا يبادلون مواطنيهم اليهود عواطف المودّة والإخاء". لا بل يبدو أن يهوداً كثيرين كانوا يندرجون في الحزبيات العصبية العربية، كأن يقف الدكتور موريال، صاحب إحدى الصحف الصادرة في يافا، الى جانب الحزبية المناوئة لآل الدجاني. وحين يذكر الحكيم عائلات "الطبقات الراقية" في المدينة نفسها، يذكر في عدادها عائلات يهودية.
والشيء نفسه يصح في باقي مدن المشرق، حيث كان اليهوديان يحيى ويوسف لينادو، على ما يذكر خالد العظم، من وجهاء دمشق و"أصحاب النفوذ والكلمة المسموعة" فيها. وحتى المؤتمر العربي الأول الذي عقده السوريون واللبنانيون في القاهرة عام 1913، تحدث فيه اسكندر عمون، نائب رئيسه، عن عدم "حرمان فريق من حق من الحقوق، لا بداعي الجنس ولا بداعي الدين، عربياً كان أو تركياً أو أرمنياً أو كردياً، مسلماً أو مسيحياً، اسرائيلياً أو درزياً".
لقد ظهرت المخاوف العربية حيال الهجرة اليهودية في وقت مبكر بطبيعة الحال. ويمكن التأريخ لبداياتها مع البرقية التي أرسلها بعض متنفّذي القدس ووجهائها في 24 حزيران يونيو 1891 محتجّين ومطالبين بإصدار فرمان يمنع الهجرة اليهودية الى فلسطين وشراء الأراضي فيها. لكن الهجرة المرفوضة لم توصف بيهوديتها إلا في معرض التوكيد على كونها غريبة، ومن ثم خطيرة، وهي النبرة التي استمرت حتى مطالع القرن.
إلا أن المخاوف جعلت تعبّر عن نفسها بطرق شتى، أوضح وأكثر اشتمالاً على معانٍ ايديولوجية وقِيَمية. فموجة الهجرة الثانية 1904 - 1914 حملت نحواً من أربعين ألفاً ممن وفدت أكثريتهم من روسيا القيصرية، لا سيما بعد فشل ثورة 1905 وما تلاه من قمع واضطهاد. والأمر هذا بدا بطبيعة الحال قاسياً على السكان المحليين، لكن في الوقت نفسه بدا أعقد مما تستوعبه عقلية كانت لا تزال، بدورها، محلية جداً.
ف"الاتحاد والترقي" تمسّك بالقيود المعمول بها والمفروضة على الهجرة الى فلسطين، وان كانت تطورت تقنيات التحايُل عليها من جراء تطور الاتصال العالمي عشية الحرب الأولى. فبمعنى ما كانت هذه الحقبة مرحلةً للهجرات الكبرى من روسيا وأوروبا الشرقية والوسطى غرباً وجنوباً. ولم تخفَ صلة الهجرات باللاسامية، وبطور الانحطاط الذي تكشفت عنه الإمبراطوريتان الهابسبورغية والقيصرية، ما نشّط القومية وردود الفعل الحادّة في عموم القارة.
وراح القلق ونذر الانتقال من أفق تاريخي الى آخر تكتسب طابعاً كونياً، فيما حيتانٌ كثيرة تسبح في مياه أوروبا يومذاك. فأواخرَ القرن الماضي، وفي عديد البلدان، تفاقمت حركات القومية الراديكالية مسوقةً بالرد على تحديات أربعة: فالليبرالية والرأسمالية كانتا، بحسب أريك هوبزباوم، تحوّلان المجتمعات بسرعة غير مسبوقة، وتطرحان أسئلة جدية على البلدان شبه المغلقة في شرق القارة ووسطها. والحركات الاشتراكية والعمالية كانت تثير رعب الطبقات الحاكمة والوسطى على السواء، بينما الأُطر الإمبراطورية للدولة كانت تتفسّخ. أما حركة الهجرة من أوروبا الشرقية والجنوبية في اتجاه الغرب، فكانت تطلق اشارات العداء للغريب وترفد سائر الاندفاعات القصوى.
والراهن أن هذه الهجرة كما انطلقت يومها، كانت أكبر انتقال سكاني جماهيري حتى ذاك التاريخ. ف"الرجال والنساء"، كما كتب هوبرباوم، "هاجروا ليس فقط عبر المحيطات والحدود الدولية، بل من الريف الى المدينة، ومن اقليم في الدولة الى اقليم آخر". ولتقدير حجم ما حصل تكفي الإشارة الى أنه من أصل كل 100 بولندي هاجر 15 شخصاً تقريباً هجرةً نهائية، يضاف اليهم نصف مليون مهاجر موسمي سنوياً. ولم يكن الذعر الذي أثارته هذه الهجرة في بلد كألمانيا بسيطاً. فحتى السوسيولوجي الليبرالي ماكس فيبر اندفع، من جرائها، الى تعاطف عابر مع "عصبة المانيا الكبرى" القومية والشوفينية. لا بل آثرت الولايات المتحدة، البلد الذي أسسته الهجرة، أن تغلق بابها في وجه المهاجرين خلال الحرب الأولى وبعدها.
وبالنسبة الى اليهود النازحين كانت وجهتهم الغرب الأوروبي والغرب الأميركي الموصوف، حتى اغلاق أبوابه، بالعالم الجديد والفرص المفتوحة. والى هذا الغرب اتجهت أغلبيتهم، ومن شماله استأنف بعضهم طريقه الى أميركا اللاتينية. ولأن الاستبداد وعدم التسامح استفحلا في روسيا القيصرية وأوروبا الشرقية، ارتفع عدد المهاجرين اليهود منهما، حتى الحرب الأولى، الى مليون ونصف المليون هم ثُلث مجموعهم في الشرق الأوروبي حينذاك.
لكن اليهود بدوا نموذجيين لأن يُقدِّموا قرابين فداء مطلوبة على مذبح التغييرات الكونية الهائلة، كما هومعروف. وهم، وسط تحولات الحرب الأولى والثورة الروسية والتي كانت الأسوأ حتى صعود هتلر، "هوجموا من الروس كبولنديين، وكروس من البولنديين، وكيهود من الطرفين" بحسب برنارد لويس. وبين 1917 و1920 ذُبح على الأقل 75 ألف يهودي في أوكرانيا، فضلاً عن أعداد أصغر في بعض الأمم الحديثة الاستقلال في أوروبا الشرقية.
هذا الطوفان البشري رفع عددهم في فلسطين مع اندلاع حرب 1914 الى ما بين 85000 و90000، وهو ما لم يكن في وسع حكام السلطنة الجدد أن يواجهوه بالصدّ، إلا بقدر ما كان في امكان السكان أن يصمّوا آذانهم عن خرافات تتردد في جوارهم الأوروبي. فإذا أضفنا الفساد والرشوة الموروثين لدى البيروقراطية العثمانية المترهّلة، غدا الربط المحكم بين الهجرة اليهودية و"الاتحاد والترقي" تبسيطاً فجاً.
مع هذا، وفي مستوى أدنى، كان للمجموعة التركية الحاكمة إسهامها، حيث حملتها مصاعبها المالية على محاورة الحركة الصهيونية في ما خص الهجرة، وهو ما تبدى في اجراءات التسهيل التي لم تُتخذ الا في أيلول سبتمبر 1913 لتواجَه باعتراضات فلسطينية وعربية. وما زاد الطينَ بلةً أن ذاك العام شهد اختمار التراجع عن زخم النزعة الدستورية قياساً بما كان عليه قبل سنوات خمس. فالتفسّخ والاهتراء كانا أوغلا في الصُلب العثماني، ما جعل العلاج العسكري قليلاً جداً ومتأخراً جداً، ناهيك عن فوقيته البالغة. فما أن استعيد العمل بدستور 1876 الإصلاحي، حتى أعلنت بلغاريا استقلالها وألحقت دولة الهبسبورغيين، النمسوية الهنغارية، البوسنةَ والهرسك، وفي 1911 - 1912 تغلب الإيطاليون على السلطنة وانتزعوا طرابلس الليبية. وبعد عام واحد خسر العثمانيون كل ممتلكاتهم الأوروبية تقريباً للبلقانيين.
ومثل كل تحديث متأخر يقدم عليه الضعيف، يتبدى الضعفُ الوليد البكر للتحديث، فتظهر بسرعة مطاليب طويلاً ما قُمعت، فيما يلوح الظرف مواتياً لها كي تتجرأ وتنتصر بالغصب والعنوة. وهكذا ففي 1913 تعرضت الحداثة العثمانية الناشئة لصدمة لم تُبق منها إلا القوة التي يُعول عليها وضع حد للمذلات التي نزلت بالعثمانيين. وقد حُسم الأمر نهائياً بتبني لون من الديكتاتورية العسكرية عن طريق اصدار "قانون الولايات"، بينما أمسك الاتحاديون القوميون وحدهم بالسلطة مُبعدين الجناح الليبرالي.
وليس من غير دلالة أن يشهد العام اياه ظهور اعتراضات كاعتراض النائب القومي العربي شكري العسلي على أن "في نظارة المالية فقط 111 تركياً و13 يهودياً و10 من الأرمن و4 من الروم وليس فيها عربي واحد"، وأن يتهم طالب النقيب، على رأس "جمعية البصراوية"، حكام تركيا العسكريين بأنهم "موالون للصهيونية يناوئون الإسلام والعرب". وأبعد من هذا ما جاء في البيان البصراوي من أن "جمعية الاتحاد والترقي" هي التي "كانت وراء الحركة الصهيونية وهي التي اقترحت بيع فلسطين لليهود لتكون لهم وطناً قومياً مستقلاً... إن أعضاء هذه الجمعية ليسوا بمسلمين وحاشا أن يكونوا، بل انهم كفّار خدعوا الإسلام وحاولوا تمزيقه وتقويضه من أساساته".
وما كان يحصل آنذاك لم تكن تعوزه حدة المشاعر. فإذ ارتفعت أرقام الهجرة اليهودية، فإن إحباط النخبة العربية أجّجه الإحساس العارم بأن الأتراك تخلّوا عن العرب كلياً. وفي مناخ كهذا راح الكلام الذي قاله طالب النقيب يشيع ويعمّ أوساط الفئة الحديثة التي وجدت نفسها تردد ما قاله تقليديوها منذ 1908، لا سيما منذ فشل المؤامرة المضادة ونفي بعض رجالاتها ممن تجمّعوا في مصر. فهؤلاء لم يُسقطوا الحميدية من اعتبارهم أصلاً، ولم ينسوا جميلها إذ "لم تبع فلسطين لليهود"، كما لم يتسامحوا، بطبيعة الحال، مع فقدانهم مواقعَهم وامتيازاتهم. وكان ما أقلقهم في خلع السلطان وتحديد صلاحيات خليفته أنهما ضربة للإسلام ونفوذه، بحسب تأويلهما الذي سبق للأفغاني وعبده أن تحدياه وشككا فيه. كذلك أثارتهم المساواة الدينية التي وعد بها الأتراك الشبان، واستقطابهم المنفيين من الخارج، وهم كُثُر، ومنهم المتعلمون والصحافيون وذوو الاتجاهات الليبرالية والتحديثية، فضلاً عن جذبهم الأقليات الدينية اليهم. ثم، وبالقدر نفسه، استفزّتهم قومية القوميين من الاتحاديين.
وكما أطيحت تحديثية التحديثيين الأتراك، أطيحت تحديثية زملائهم العرب ممن وجدوا أنفسهم مدعوّين الى التعامل مع سلعتين من سلع الحداثة الغربية في صورة متعاقبة: الديموقراطية والقومية. لكن بينما تنافر تحديثيو الأتراك ومثلاؤهم العرب، بسبب القومية، ضم محافظو تركيا أصواتهم الى أصوات محافظي المشرق، وهم جميعاً يعادون كل احتمال ديموقراطي ويرون العالم المحيط بهم يتغير على نحو لا قبل لهم باستيعابه. ولم يكن قليل التعبير حقي أفندي بن حسن، أحد المساهمين في محاولة 1913 الانقلابية ضد "الاتحاد والترقي"، حين ذكر أمام المحكمة العسكرية التي انعقدت لمحاكمة المتآمرين، أن غرض الانقلاب كان استرجاع السلطة من "اليهود والصهاينة والماسونيين".
إذاً كانت العصرنة السياسية وحقوق الأقليات، لا اليهود وحدهم، مرفوضة. وعلى هذا النحو لابس رفضَ الهجرة كمطلبٍ مُحقّ خوفٌ من الجوانب التقدمية والقومية اللادينية في سياسات "تركيا الفتاة"، كالنيّة في ترجمة القرآن الى التركية، وإحياء بعض الحركات التي تمجّد تاريخ تركيا قبل الإسلام، والتشكيك المتعاظم بفكرة "الأمة الإسلامية".
وبدا سهلاً في ظل استعدادات التواطؤ القومي عند النخبة الحديثة والضعيفة التكوين، تفسيرُ هذا الانقلاب كله بدور اليهود اعتماداً على ما رشح من أدبيات اللاسامية الأوروبية. فبعض رجال السلك الديبلوماسي الغربيين في اسطنبول كان لا سامياً صريحاً، فيما كان بعض الصحافة الأجنبية، ومعها الصحافة المحلية، المسيحية، اليونانية والأرمنية، والمسيحية العربية كذلك، تضخّ سمومها التي شرعت الصحافة التركية تتلقّفها. وبدورها عملت الهزائم أمام قوى مسيحية في البلقان على توتير واحتقان هما نموذجيان دائماً في صعود نزعات كهذه.
أما اندلاع الحرب العالمية الأولى ووقوف تركيا في الصف الألماني، فعقّدا الأمور أكثر. ذاك أن تشكيك الدول الغربية المناهضة لألمانيا بالنظام الجديد في اسطنبول، تذرّع، في الدعاية الموجهة الى المنطقة، بالشك في إسلامه. ولم تعدم الحملة الدعائية هذه، في تركيزها على "سيطرة اليهود والماسونيين"، التأثير على أهل العالمين العربي والإسلامي. لكن إذا كانت المشاعر العنصرية غالباً ما تنطوي على وظيفة اجتماعية تم تحويرها، فالواضح أن البدايات العنصرية، تجاه اليهود، والمسيحيين كذلك، انبثقت من كراهية أصحاب المواقع الأعلى في التراتُب المجتمعي الحديث، بعدما كانوا الأدنى في التراتُب القديم. وهذا ما كانت له دلالاته العميقة اللاحقة لجهة تغذية الاستعداد المناوىء للحداثة.
وكالأواني المستطرقة جعل العداء المُستجد لليهود يفاقم العداء للغرب، وللديموقراطية والبرلمانية من ثم، قبل أن يظهر التفكير المعاكس الذي رأيناه لاحقاً وفحواه التودد للكولونياليات الغربية من أجل كسبها ضد اليهود.
على أن خرافة الصلة بين اليهود و"الاتحاد والترقي" لا تعدم مصدرها في الواقع، تماماً كما يصح في حال الثورة الروسية بعد أقل من عقد واحد. فالأطراف الثلاثة، النخبة التركية ويهود تركيا وماسونيوها، جمعتهم رغبة التخلص من الحكم الاستبدادي لعبدالحميد واستعادة العمل بدستور 1876. وهذا اللقاء لم تعوزه الأشكال الأداتية والتعبيرية: ف"تركيا الفتاة" تلقّت، فعلاً، مساعدات مالية من "الدونمة" في سالونيكا، مقرّ قيادة العسكريين الذين انقضّوا على سلطة عبدالحميد. وقصة "الدونمة" طويلة ومعقّدة ترجع في جذورها الى 1648 حين بدأت مذابح كميلينتسكي في أوكرانيا ضد اليهود، فأعلن شاب يهودي مؤمن في أزمير يدعى شابتاي سفي، أنه المسيح المنتظر. وتبعاً لكتابات وتأويلات كابالية، اعتبر هذه السنة سنة البعث والخلاص. وكما في كل تصور رؤيوي، بدا تدفق اللاجئين البائسين الأوائل من شرق أوروبا، حاملين معهم قصص السلب وتدنيس المقدسات والقتل، كأنه نذير بالهيولي الذي يسبق مجيء المسيح وإقامة مملكة الله على الأرض. وفي سائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية استقبلت الطوائف اليهودية دعوة سفي بتسليم هذياني. وحتى في أوروبا الشمالية والغربية، وُجد من باع بيته وممتلكاته وتهيأ لرحلة الخلاص الى القدس. وفي النهاية اعتُقل مسيح أزمير وأودعته السلطات التركية السجن بتهمة التحريض على الفتنة. لكنه أنقذ نفسه بالتحول الى الإسلام، وبقي باقي أيامه متقاعداً عند السلطان، فيما تبعه أتباعه في اعتناق دين الأكثرية والسلطة، موجدين طائفة التقيّة اليهودية التي عُرفت ب"الدونمة".
الى ذلك كانت بيوت اليهود من ذوي الأصول الأوروبية والأفكار التحررية "أمكنة آمنة لاجتماعات الضباط، لسبب بسيط: فالكثيرون منهم ممن أقاموا في سالونيكا كانوا من المواطنين الإيطاليين، وكانت بيوتهم يستحيل على البوليس العثماني دخولها وتفتيشها تبعاً للمعاهدات والاتفاقات التي عُرفت ب"الامتيازات" بين السلطنة وبلدان أوروبا"، بحسب ما روى ه.س. أرمسترونغ في سيرته الشهيرة عن أتاتورك: "الذئب الرمادي".
ووُجد، من جهة أخرى، لدى بعض "الاتحاد والترقي"، حذر من المسيحيين قومي المصدر لصلتهم الدينية بالبلغار واليونان، فيما لم يوجد مثله حيال اليهود الأقل تمتعاً بالحماية وامتلاءً بالقوة. هكذا لاح لدى القوميين الأتراك تشابُه مع اليهود تجاه الدول الغربية، مفاده الشعور بالتخلي مدفوعاً الى سوية العداء والقطيعة. وبقدر ما كانت الأحداث البلقانية تكرّس مسافة الأتراك الفاصلة عن أوروبا والمسيحيين، كانت تكرّس تفضيلهم اليهود على النصارى.
وثمة عامل آخر يرقى الى بدايات الحركة وتوجهاتها الأولى. فخلال سنواتها تلك ضمّت في عضويتها ممثلين عن مجموعات إثنية كثيرة في الإمبراطورية المتعددة القوميات. لقد كان تكوين اللجنة كوزوموبوليتياً يشبه تكوين السلطنة، وكان لليهود حضور مميز فيها يماثل حضورهم في سائر الحركات الثورية والمعادية للاستبداد أوائل القرن الماضي وأوائل هذا، خصوصاً في بلدان أوروبا التي لم تستقر على حال.
وقد راح الاتحاديون، خصوصاً جناحهم القومي، يقارنون أوضاع الأقليات التركية خارج تركيا بوضع اليهود الروس، كما أثارت محاكمة درايفوس الكثير من تعاطفهم، وبدت لهم علامة على ضعف حس العدالة لدى الغرب المسيحي. واستمرت الأمور على هذا النحو بعد استيلائهم على السلطة، خصوصاً أن "الممثلين اليهود في البرلمان دعموا الأهداف السياسية والاقتصادية للاتحاد والترقي بثبات وتماسك. فبينما رأى كثيرون من اليونانيين في الالتحاق باليونان أمراً مرغوباً سياسياً، ونظرت مجموعات أقلية أخرى الى الاستقلال في تلك الأقاليم التي تجمّعت فيها وشكّلت كثافة سكانية، رأي اليهود أفضل ضمان لمصالحهم إقامة هدف مشترك مع العناصر المسلمة داخل دولة عثمانية علمانية ودستورية، والبقاء ضمن امبراطورية لم يتعرضوا فيها لما تعرضوا له في غيرها. كذلك منحوا دعمهم الكامل لتطوير اقتصاد وطني الهدف منه تخليص الاقتصاد العثماني من الامتيازات التي أنتجت سيطرة على الحياة الاقتصادية يمارسها مسيحيون وحماتهم الأوروبيون"، على ما كتب التركي سوكرو هانيوغلو.
وامتداداً للموقف هذا من اليهود ظهرت في صحافة "الاتحاد والترقي" لمطالع القرن، خصوصاً ما كان يُطبع منها في القاهرة، مقالات عن الصهيونية تترجّح بين العرض غير النقدي وبين التعاطف، بما فيها مقالة للقيادي الصهيوني ماكس نورداو. وربما أحدث رفض عبدالحميد النزول عند مطلب ثيودور هرتزل، تبنياً ضمنياً لذاك المطلب عند مُطيحي السلطان، خصوصاً أن أخبار العذابات اليهودية في روسيا كانت تملأ أعمدة الصحف في العالم كله.
وإذا كانت هذه حال قومييهم، فإن مثقفيهم الليبراليين حملوا في ما خص هذه المسائل وعياً مشابهاً. فصحيفة Mesveret، مثلاً، التي أسسها منفيو "الاتحاد والترقي" في باريس في 1895، لتكون صوتهم، ضمّت خمسة كتّاب أساسيين أحدهم تركي مسلم والثاني يوناني والثالث مسيحي سوري والرابع أرمني والخامس يهودي. وكان المقصود بهذا التنوع أن يشكل "رمزاً للتضامن الذي زعمت الحركة أنه موجود بين المواطنين العثمانيين كافة". أما لماذا لم يوجد العرب المسلمون في هذه الأنشطة فأغلب الظن أن الثقافة الدينية والملّيّة التي سادت النظام العثماني اعتبرتهم مُمَثلين بالمسلمين الأتراك. فهؤلاء وأولئك يندرجون معاً في الملّة الإسلامية السيدة التي كانت تحدد الهوية أكثر مما يحددها الأصل العرقي أو اللغة. كذلك كان حضور العرب المسلمين ضعيفاً في المحافل الديموقراطية في الغرب، هم الذين تلكأوا كثيراً عن معارضة السلطنة من موقع ديموقراطي وحديث، ولم يكن الذين فعلوا بينهم غير أقلية هزيلة ومعزولة.
فالقراءة العربية لعلاقة اليهود ب"الاتحاد والترقي" حمّلتها، إذاً، أكثر بكثير مما تحتمل، موغلةً مع الزمن في التفسير التآمري. فهي، بتأثير الإخفاقات المربعة الاضلاع: حيال كل من مهمة إنشائها الأمم - الدول، وابتعاد تركيا الحديثة، والكولونيالية الغربية، والهجرة اليهودية، لم تستطع تعيين الحدود الفعلية والدقيقة لتلك العلاقة. ف"الاتحاد والترقي" بالخليط الذي انطوى عليه، كان يستحيل أن يكون كتلة موحدة، ناهيك عن كونه دميةً في يد أيٍ كان. أما ما أقدم عليه بقيامه واستيلائه على النظام، وتعاطيه مع القوميات، ومن ثم انخراطه في الحرب الأولى، فأكبر بكثير من أن يكون مسوقاً باليهود وطائفة "الدونمة".
وإزاحةً للسحر حظي اليهود النشطاء في "الاتحاد والترقي" بمواقع أساسية في وظائف الدولة، ربما كان بعضها أشد تأثيراً من الوزارات، إلا أنهم، على عكس المسيحيين، لم يُسلّموا مناصب وزارية. فلم تستطع علاقتهم بالسلطة الجديدة أن تتغلّب، مثلاً، على اعتبارات العدد، وقد ضمّت السلطنة في أواخر عهدها 30 مليوناً، لم يتعدّ اليهود بينهم النصف مليون. ثم ان الذين تأثّروا منهم بالصهيونية، مدفوعين بأحداث البلقان والصعود القومي في أوروبا الشرقية والجنوبية، لم ينجحوا في حمل الحكومة التي شكّلتها "تركيا الفتاة" على قبول الصهيونية كإيديولوجيا شرعية.
والواقع أن الحركة الصهيونية لم تكن تتردد يومذاك في الاتصال بأي من الحركات القومية الصاعدة أو الواعدة في المنطقة، بما فيها الحركة العربية نفسها. وفي هذا المعنى "سارعت حكومة المنظمة الصهيونية آنذاك الى افتتاح "مكتب فلسطين" في يافا للإشراف من خلال أجهزته ونشاطاته على عمليات الاستعمار والاستيطان. بينما راح نفر من المسؤولين الصهيونيين يسعى للتقرب من رجالات العرب في محاولة للوقوف على نواياهم ازاء الحكم العثماني ومسألة الانفصال عن السلطة المركزية في الآستانة"، على ما يسجّل أسعد رزّوق.
وأهم من هذا، ربما، أن جماعة "الاتحاد والترقي"، وحتى الحرب الأولى، حملت آراء شديدة التعدد والاختلاف حيال الصهيونية. فالكثيرون لم يكترثوا بها، وقلةٌ عادتها لأسباب قومية على خلفية عسكرية، وقلةٌ أيّدتها إما لأسباب قومية ذات خلفية جغرافية - سياسية، أو لأخرى عمرانية وتنموية بحسب ما تراءى لها. ودائماً كانت السياسات الأوروبية لتركيا تؤثّر في هذا الاتجاه أو ذاك.
وكما وُجد منذ النشأة الأولى ل"الاتحاد والترقي" تيار مُحبّ لليهود، كان هناك تيار جارف في كرههم. فمنذ البداية، مثلاً، ظهرت على ضابط شاب ومتحمّس كمصطفى كمال حدود التنافر مع الأجواء الديموقراطية والكوزموبوليتية التي اكتنفت بعض رفاقه. وكما يكتب ه.س. أرمسترونغ، المتعاطف مع أتاتورك والمغازل للاسامية، وجد مصطفى كمال نفسه "في مناخ يمقته. فالمحفل ]الماسوني[ كان جزءاً من منظمة عالمية عدمية. كان مليئاً برجال بلا جنسيات يتحدثون عن شرور روسيا حيث يُضطهد اليهود، وعن متع فيينا، حيث أتيح لهم جمع المال ... مصطفى كمال كان مُدركاً أنه وقع في خيوط مال أممي وتخريب أممي وتنظيمات خفية، من دون أن يعرف بالضبط ما هي. فهو لم يهتم أبداً بالأهداف والمتاعب الأممية لليهود، وهو اهتم بدرجة أقل بالطقس الماسوني وتحدث عنه بازدراء. لقد كان تركياً فخوراً بكونه تركياً ومهتماً فحسب بإنقاذ تركيا من عجز السلطان واستبداده، ومن القبضة القابضة للأجانب". وبدورهم فإن اليهود، كما يضيف أرمسترونغ ناسجاً على منوال نصف واقعي نصف خرافي، "لم يثقوا به، فهو لم يترقَ أبداً الى الدرجات العليا في مهنة الماسونية".
والحال أن أتاتورك الذي بدأ في شبابه اتحادياً، أطلق النزعة القومية الى أقصاها بعد انهيار الاتحاديين في الحرب الأولى وتوليه الحكم بنفسه. وكان مما فعله أن أعدم جاويد، الدونمي، إبان اقتصاصه الدموي من رموز العهد السابق عليه علماً أن المنظمات اليهودية القوية في نيويورك وباريس وبرلين بعثت بالرسائل والبرقيات طالبةً له الرحمة، وحاول عدد من المصالح المالية الكبرى، بما فيها البيوت المصرفية لآل روتشيلد في فيينا ولندن، أن يقنع الحكومتين البريطانية والفرنسية وكبريات الصحف في البلدين باستعمال نفوذها من أجل انقاذ جاويد.
وفي عملية التتريك التي لم توجَّه ضد الرموز والمواقع "الشرقية" فحسب، بل أيضاً ضد رموز ومواقع "غربية"، حُصرت العطل بيوم الجمعة وحده، بعدما كان اليهود يعطّلون السبت، والمسيحيون الأحد. وقضى الاتجاه القومي والدولتي التركي، كما عبّر عنه أتاتورك بحزم، باستبعاد اليهود وكل مجموعة أو لون أقلي آخر. فمعه "أُخرجت الأقليات الأرمن، اليهود، وخصوصاً اليونانيين من النشاطات التجارية والمالية الى حد بعيد، وشجّعت الحكومة انشاء أدوات جديدة لتمويل المشاريع الصناعية، وهي الوجهة التي استمرت حتى عشية الحرب.
أما اليهود العثمانيون القلة ممن لعبوا دوراً يستحق الذكر في السياسات التركية الجديدة، فكانوا إما غير مكترثين بالصهيونية أو معادين لها. وهم في الأحوال كافة، لم يلعبوا أدواراً أساسية ومؤثّرة. وفي المقابل ظل يهود آخرون حلفاء لقومية "الاتحاد والترقي"، متحمسين لنشر اللغة والثقافة التركيتين من دون العبريتين اللتين اهتم الصهاينة وحدهم بإحيائهما.
لكن القراءة العربية للأحداث دلّت، بعد كل حساب، على ما يتجاوزها الى سمة عربية مبكرة تساهم في الحيلولة دون التحديث. فالتشكيك المبالغ فيه ب"الدونمة"، تحت وطأة الإحباطات، بدأ يحمل في ثناياه تطويراً لموقف التشكيك بالفرق الباطنية في الإسلام، ممزوجاً بالخوف من الحزبية التي مثّلها "الاتحاد والترقي" وما يُفترض أنه عمقه الغربي.
وفي الرفض ل"تركيا الفتاة"، الذي شرع يتوازى مع اعادة تقييم ايجابية لعبدالحميد، لاحت عناصر كارثية أبعد من الصراع مع الصهيونية، ان لم تكن أبعد من السياسة نفسها. هكذا ساد وانتصر ميل "النخبة" القديمة والسلطانية الذي ورثته عنها النخب الحديثة بعد احباطها. وأفضى ذلك الى نسيان استبداد السلطان الذي رزح على الملايين لكي يتجمّد تقييمه عند وقوفه في وجه إنشاء اقامة كيان صهيوني في فلسطين. وفي المحلية الضيقة هذه التي استفحلت لاحقاً، ظهر ان الحاجة الى الأب كثيراً ما تفوق الحاجة الى الحرية.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.