الكثير منا في حياته اليومية تفاجئه أزمات مالية تجعله يراجع حساباته ليستطيع أن يغطى المبلغ المطلوب منه، فإذا كان من المدّخرين الذين يستقطعون من دخلهم بشكل منظم فإنهم سيواجهون هذه الأزمة المالية بسهولة ويسر حيث سيتمكن من دفع ما يتطلبه الموقف من نقود.. أما إذا كان من الذين لا يطبقون المثل القائل (احفظ قرشك الأبيض ينفعك في يومك الأسود) فإن الدنيا ستظلم في عينيه إذ سيقف محتاراً كيف سيتعامل مع هذا الموقف وسيتعين عليه الاختيار بين أمرين أحلاهما مر فالأول هو طلب سلفة من أحد أقاربه أو معارفه، أما الآخر فهو طرق باب الاستدانة من الآخرين الذين سيرون فيه لقمة سائغة ومجالاً خصباً لزيادة دخلهم بما سيجنونه من أرباح لقاء البيع بالدين (الآجل) حيث سيضطر إلى سداد المبلغ بعد مرور عام بزيادة قد تزيد على النصف في أكثر الأحيان إضافة إلى خسارته في بيع ما اشتراه بثمن أقل من سعر السوق، في جيل مضى كانت ثقافة الادخار حاضرة بقوة في حياتهم اليومية إذ كانوا في سنوات من قلة ذات اليد وشظف العيش ولكن بفضل الادخار واجهوا جل الأزمات المالية التي كانت تواجههم بكل اقتدار، وكان من أهم ما ساعدهم على ذلك هو حسن التدبير والبعد عن التبذير، وفي يومنا هذا وفي ظل المتغيرات التي طرأت على المجتمع بفضل ما نعيشه من رفاهية في شتى أمور حياتنا فقد ظهر جيل مرفه بكل ما تعنيه الكلمة وأصبح يرى في الكماليات ضرورة مما جعل العبء يزداد على كاهل رب الأسرة الذي لم يعد في مقدوره مواجهة هذه المتطلبات التي باتت شبه يومية بل صار من اجل تحقيق هذه الرغبات يلجأ إلى السلفة والى أبعد من ذلك وهو الاقتراض من البنوك من أجل شيء يعد استهلاكياً كشراء سيارة فارهة أو بناء منزل فخم يزيد عن الحاجة أو لدواعي السفر إلى خارج البلاد من أجل السياحة في البلدان المتقدمة والراقية التي تكلف السائح مبالغ طائلة، مما جعل هذا الجيل غير قادر في ظل تلك الظروف التي اختلقها على الادخار أو حتى في التفكير فيه وصار كل همه في سداد ديونه أو أن يستطيع أن يختم شهره دون أن يلجأ إلى السلفة قبل موعد صرف الراتب الشهري. الأجداد تعاملوا مع تقلبات الزمن بحكمة وبعد نظر دون الحاجة للاستدانة زمن الحاجة والفقر في زمن الحاجة والفقر في جيل الأجداد كان هناك اقتصاد فرضته الحاجة فعلى سبيل المثال فقد كان الطعام الرئيسي الذي يقتات منه الناس هو التمر ودقيق الحنطة، ولأن التمر من الأطعمة التي تؤكل على الفور دون عناء التحضير أو الطبخ فقد كانت لقمة سائغة في متناول أيد من في البيت ولذلك فقد تم حفظه في مكان لا يمكن الوصول إليه بسهولة وهو بوضعه في (الجصة) المحكمة الإغلاق وهي عبارة عن غرفة صغيرة مبنية من اللبن و(مجصصة) من الداخل وبأسفلها فتحة سمح بخروج (دبس ) التمر الذي يشابه العسل حلاوة فيتم حفظ التمر داخلها وذلك بوضع النوع الجيد من التمر ك (الخضري) وهو أجودها في أسفلها ومن ثم يوضع في الأعلى التمر الأقل جودة والذي يطلق عليه مسمى ( الدقل ) والحكمة من ذلك هو أن لا يمل أصحاب البيت من أكل النوع الرديء بحيث اذا انتهى ظهر لعم النوع الجيد واللذيذ فالتمر الجيد كان نادراً ولا بد من ملء (الجصة) بالتمر وبعد امتلاء (الجصة) بالتمر يتم رصه بعد تغطيته بسعف النخيل الأخضر ب (فروش الحصى) الثقيلة التي تعمل على رص التمر وتماسكه وحفظه لمدة قد تزيد على العام دون أن يفسد أو يقسى، وقد كان ل (الجصة) باب من الخشب وله مفتاح خشبي ذو أسنان مميز ويكون هذا المفتاح بيد رب الأسرة الذي يقوم هو بنفسه بإخراج الاحتياج اليومي من التمر كطعام لثلاث وجبات مما يجعل الاقتصاد في تناول التمر يكفي لنهاية العام وحتى ظهور إنتاج جديد يتم وضعه في (الجصة) بعد أن تنفذ، وكدليل على ضرورة إقفال (جصة) التمر أمام أفراد الأسرة هو ما يحدث عندما ينسى رب الأسرة المفتاح اذ يتسلل الصغار وحتى الكبار في البيت إليها ويقومون باخراج المزيد من التمر ويلتهمونه خلسة دون أن يدري من بيده المفتاح الذي يقوم على الفور بإحكام قفلها بعد أن يكتشف ما نقص منها خلال نسيانها مفتوحة، ومما يصور تلك المعاناة ومدى أهمية (الجصة) في حياة الناس لدى جيل الأمس ما ذكره الشاعر عبدالله بن عبدالعزيز الضويحي في قصيدته التراثية التي قال فيها: وباب (الجصة) مجافا عقب ما كان بسكاره عقب وقت مضى يا حول صعيب فتح مسكاره. تقلبات الزمن كثيراً ما كان كبار السن ممن عركتهم الحياة يعطون لأبنائهم دروساً في الحياة ومن أهمها التأهب لتقلبات الزمن وذلك بالالتزام بالتدبير وعدم التبذير والعمل على ادخار مبلغاً من المال لمواجهة المواقف والأزمات، وقد ورد العديد من القصص التي تثبت ذلك ومنها أن أحد التجار كان له ابن مبذر ويقترن برفقاء السوء الذين يعينونه على التبذير وعدم التفكير في الزمن وتقلباته، وأمام كل النصائح التي كان يوجهها لابنه إلا أنه لم يكن يصغي لها البته، وعندما شعر الأب باقتراب أجله وبأن ابنه لم يستوعب دروس الحياة التي أعطاه إياها أوصاه عند موته بأن يحتفظ بوصية مكتوبة ولا يفتحها إلا بعد أن يمر بظروف قاهرة وقاسية لا يمكن أن يحتملها، وبعد فترة مات الأب مخلفاً هذا الابن الوحيد وثروة هائلة تركها له، فقام بتنفيذ وصية أبيه وأخفاها في مكان بعيد عن متناول زوجته، واستمر في حياة اللهو واللعب معتمداً على ما يصرفه من نقود وثروة تركها له والده، ومع مرور الأيام وكثرة صرف ما لديه من نقود بدأ الثراء يتراجع عنه لاسيما وهو بلا عمل وبعد شهور عديدة نفذ كل ما لديه من مال وصار لا يملك سوى المنزل الذي يؤويه هو وزوجته ومع تبدل حاله تفرق عنه أصدقاؤه الذين يطلق عليهم (أصدقاء الرخاء)، ولما بقي بلا مال فقد طرق أبوابهم ليستلف منهم فلم يجد منهم سوى الهجران وافتعال الأسباب ومع مرور الوقت هجروه بالكلية، فضاقت عليه الأرض وبقي يطرق شتى أبواب الرزق بلا فائدة فقد نشأ مرفها لا يستطيع القيام بأي عمل، كما لم يجد من يقرضه المال إلى أجل بفائدة لأنه لا يملك من حطام الدنيا شيئا يرهنه سوى البيت الذي يسكنه، ولما طال به الحال هجرته زوجته أيضاً، فجلس في البيت وحيداً متفكراً في حالته، وفجأة تذكر وصية والده التي أمره بأن يفتحها عندما يمر بظروف قاسية وبالفعل فقد توجه إلى وصية والده ليقرأها فهو في أشد حالات اليأس والظروف القاسية وعندما فتحها وجد أن أباه قد قال فيها إذا كنت في ظروف سيئة وقاهرة ولا تملك المال فوصيتي لك بأن تربط حول عنقك حبلاً تجده يتدلى من خشبة في غرفة قصيا في المنزل لتستريح مما أنت فيه، فبكى على حاله ولشدة يأسه ذهب إلى الغرفة فوجد الحبل مخبأ في أعلى الخشبة التي تتوسط الغرفة فجاء بصندوق وصعد عليه ولف الحبل حول عنقه ثم أغمض عينيه وقفز وهو يفكر في إنهاء معاناته وعند ذلك انكسرت الخشبة وتساقط الذهب والنقود التي كان أبوه قد خبأها له ففرح فرحاً شديداً وبدأ حياته من جديد وترك حياة الترف والإسراف وعرف قيمة النقود واستوعب الدرس جيداً وبات في حياته مدبراً وللمال مدخراً. ثقافة البذخ على الكماليات أربكت مصروفات جيل اليوم أمام الأزمات المالية خطوات الادخار تكاد أولى خطوات الادخار هي التدبير وذلك يعني حسن التصرف مع ما يملكه الشخص من نقود ومؤنه بحيث إن حسن التدبير يعني وضع كل شيء في محله قلا إسراف ولا تبذير كما أن ذلك لا يعني التقتير بل الصرف بحكمة وأول من تقع عليه المسؤولية في التدبير في المنزل هي المرأة التي تتولى شؤون جميع من ي البيت إذ باستطاعتها توفير الكثير من المصاريف بحكمة فعلى سبيل المثال يمكنها متابعة الملابس وذلك بتعاهد نظافتها المستمرة والعمل على إصلاح العيوب البسيطة عن طريق الخياطة والترتيب مما يجعلها تعيش عمراً أطول، كما تحتفظ بالجديد من الثياب للمناسبات كصلاة الجمعة والأعياد مطبقة بذلك المثل الذي يقول (اللي ماله خلق ماله جديد) أي الذي يلبس الجديد دوماً من الثياب في كل وقته ولا يحتفظ بالجديد فانه لا جديد له فجميع ما لديه من الثياب سيكون بالياً لعدم محافظته على الجديد منها وكذلك الحال بالنسبة إلى الطعام حيث تتمكن من احتساب ما يكفي أفراد الأسرة من الطعام عند الطهي، وبذلك تقضي على الإسراف والتخلص من طعام جيد يكفي لأشخاص يفوق أفراد الأسرة إضافة إلى الاحتفاظ ببعض الطعام الباقي لتناوله في فترة أخرى، وقد تستغني عن أصناف في الطبخ وتقوم بخبرتها بتعويضها ببعض النكهات والبهارات ، وبذلك يتم توفير الكثير من المال لإنفاقه في الضروريات أو لادخاره لوقت الحاجة وقد قيل في المثل العامي قديماً (مدبر في الدار خير من الحدار) والمعنى من هذا المثل أن المرأة التي تدبر وتحسن التوفير في منزلها خيراً من الرجل الذي يذهب للبحث عن عمل خارج البلاد فبإمكانها تقليص النفقات والادخار من المال ما يفوق قدرة من يتغرب للبحث عن العمل من أجل توفير الكثير من المال . الحصالة عندما يحتاج المرء لشراء سلعة معينة ويكون ثمنها غاليا فقد لا يستطيع دفعه لعدم توفر المبلغ لديه مما يجعله يلجأ مرغماً على الاقتراض والاستدانة ولكن لو أخر شراءه إلى أجل معين لاستطاع جمع مبلغه، ولكن الكثيرين لا يحب الانتظار ويستقل ما يجمعه من مال لعدة أشهر ولا يدري بأن القليل مع القليل يصبح كثيراً، فبعض الصغار يقتني (حصالة) وهو ما يجمع فيها النقود ويضع كل ما يزيد على حاجته في كل يوم ومع مرور الأيام تفاجأ بأنه قد جمع مالاً كثيراً بعد ثروة في مثل من هم في سنه، ومن القصص المؤكدة التي تؤيد أن جمع القليل مع القليل يصبح كثيراً هو أن أحد الشباب شكا لصاحبه عن عدم قدرته جمع مالاً ليشتري به غرضاً ضرورياً مع كثرة ما يحصل عليه من راتب شهري فاقترح عليه صاحبه بأن يعطيه في كل لقاء ما يستغني عنه من مال ليضعه في (التجوري) وهو مكان حفظ المال والوثائق المهمة وبالفعل صار هذا حاله في كل لقاء يقوم بتسليمه المبلغ الذي لا يحتاجه وبعد مضي سنة طلب من صاحبه أن يعطيه ما جمعه ففتح (التجوري) وأعطاه ما جمع فذهل عندما وجد مبلغاً كبيراً فاق ما يحتاجه لشراء الغرض الذي يريده وصمم بعدها على مواصلة الادخار لما رأى فوائده الجمة. ويعتبر الادخار صمام أمان للأسر ضد التوتر والقلق مما يخبئه المستقبل، وقد أحسن جيل الأمس في عملية الادخار التي كان نتاجها تكيّفه مع الظروف دون أن تؤثر في حياته مطبقاً المثل القائل (مدر رجليك على قد لحافك) وقد ساعده في ذلك الزمن الجميل عدم وجود مغريات الحياة من الكماليات التي نراها اليوم ، وبالنظر إلى جيل اليوم نجد أن معظمه بعيد كل البعد عن الادخار وذلك لتغليبه جانب الرفاهية على جانب الضروريات حيث تجد البعض يقود سيارة فارهة حتى لتظنه من أهل الثراء وإذا فتشت عنه تجد أنه قد اشترى هذه السيارة عن طريق الاقتراض من البنوك التي تستقطع ثلث دخله لخمس سنوات من اجل أن يستقل سيارة فارهة بينما تجده يسكن منزلاً بالإيجار، فلو أنه اكتفى مثلاً بسيارة صغيرة بنصف المبلغ الذي اقترضه لوفت بالغرض ولتمكن من الاستفادة من القرض في البدء ببناء منزل له، كما أن الكثير من الأسر ليس لديها مبدأ الادخار ولا تعرف تنظيماً لذلك فلا يتم حساب المصروف الشهري جيداً فأمورها تمشي ب (البركة) مما يستلزم مراجعة النفس من أجل الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المجال، فالبعض يستطيع أن يدخر من دخله رغم تواضعه وذلك بتقديم الأولويات في النفقة ومن ثم يبحث عن الكماليات، كما أن البعض الآخر يستعين بعمل (جمعيات) بين الأصدقاء والمعارف وذلك بتخصيص مبلغ من المال شهرياً بين خمسة أشخاص أو أكثر يدفعونه شهرياً ليستلمه كل شهر شخص حسب حاجته ويستعيضون بذلك عن الاقتراض بفوائد سنوية مرهقة، ومن أهم خطوات الادخار هو تربية النشء على ذلك وتشجيعهم له ففي الادخار فوائد عظيمة من أهمها أنه يحسن معيشة الأسرة ويحفظها ويؤمن مستقبلها ويساعد على تحقيق أهدافها المستقبلية التي تخطط لها، فالواجب على كل أسرة أن تخطط لمستقبلها، كما يجب أن يشارك جميع أفراد الأسرة في الادخار. أسواق الأمس كانت خالية من الكماليات التي تقضي على المصروف عاش جيل الأمس حياة قاسية واجهوها بالادخار والكدح "احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود" شعار جيل الأمس الجصة قديماً حفظت التمر وعلمت جيل الأمس الادخار (التجوري) توضع فيه المدخرات لوقت الحاجة والأزمات الاقتراض من أجل الكماليات ظاهرة سلبية لدى جيل اليوم