أبلت المملكة بلاءً حسناً بالتنظيم الرائع من الهيئة العامة للاستثمار لأعمال مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" في دورته الثالثة، والذي عقد برعاية صندوق الاستثمارات العامة، وتميز بحضور نخبة كبيرة من رجال الأعمال ومفكرين وسياسيين مهتمين بأمور الاستثمار من شتى أنحاء العالم. يعكس النجاح الذي حققته أعمال المؤتمر الجهود المبذولة من الهيئات والمؤسسات الحكومية لتحقيق هدف رؤية المملكة 2030؛ في إطلاق بعض القطاعات الاستراتيجية التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة، وتنمية قطاعات جديدة وشركات وطنية رائدة. لقد أكدت الرؤية أيضاً أهمية الانطلاق من مكانة المملكة الريادية وعلاقاتها التاريخية للدخول في شراكات طويلة الأمد مع الدول الشقيقة والصديقة، من أجل التبادل التجاري والنقل المعرفي. وأعتقد أن الظروف الجيواقتصادية أصبحت مواتية لتركز المملكة في سياستها الخارجية على الجانب الاقتصادي بصورة كبيرة، بصفتها وجهة غنية بالفرص الاستثمارية، من خلال وزاراتها المعنية وممثلياتها خارج المملكة. وللدلالة على أهمية التركيز على هذا التوجه، تكفي الإشارة إلى أن العلاقات التجارية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدةالأمريكية بدأت قبل العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء بينهما. كما أن المملكة المغربية كانت كذلك أول دولة في العالم تعترف بالولايات المتحدة عند إنشائها، وكان ذالك لدواعي تجارية؛ عندما سمحت الحكومة المغربية بمرور السفن التجارية الأمريكية بالمغرب في العام 1777م، وذلك قبل وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين. وعند حضوري مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" الأسبوع الفائت في الرياض، تذكرتُ قصة طريفة حصلت لي من خلال عملي السابق في سفارة خادم الحرمين الشريفين في واشنطن دسي منذ أكثر من عشر سنوات. فعند حضور أحد ضيوف المملكة، وكان يعمل في وظيفة مرموقة في مجلس الشيوخ الأمريكي، إلى الاحتفال السنوي باليوم الوطني للمملكة، أشرت إليه بالنظر إلى صورة جميلة في مدخل السفارة للحرم المكي الشريف. فاجئني هذا الضيف بتردده الشديد في النظر إلى الصورة، وقوله لي إنه كان يعتقد أنه لا يجدر بغير المسلمين النظر إلى مكة. وأشار أنه في زيارته الرسمية إلى المملكة، كانت هناك صورة للحرم المكي في غرفته، وبذل جهداً كبيراً لعدم النظر إليها احتراماً لتعاليم الدين الإسلامي. تذكرت هذه القصة مقدرا ما تقوم به المملكة اليوم من جهود جبارة لتعزيز صورة المملكة الخارجية، من خلال برامج مدروسة تعتمد في مضمونها على إيجاد أرضٍ خصبة للتعاون التجاري والاقتصادي مع دول العالم، دون الاعتماد الكلي على حملات التواصل الحكومي، التي أثبتت الأيام عدم فعاليتها في التواصل بين الشعوب وفهم تفاصيل ثقافتها بالصورة المأمولة، ما لم ترتبط بمصالح اقتصادية يستفيد منها العامة من الشعوب بصور مستديمة. هذا النوع من الشراكات القائمة على العلاقات الاقتصادية يعكس أهمية التجارة في حياة الشعوب وتبادل الثقافات؛ فعلى سبيل المثال انتقل الإسلام إلى كثير من دول العالم عن طريق التجارة وأخلاق المسلمين في تعاملاتهم الشخصية المباشرة مع أتباع الحضارات المختلفة، ما تعجز عن تحقيقه أي دولة أو حكومة مهما بذلت. ومن تجربة مباشرة، استطاع الشركة التي أمثلها "مشروع مشترك سعودي أمريكي"– مؤخراً - من توسيع علاقتها التجارية في منطقة الشرق الأوسط، لتغطي دولاً جديدة في المنطقة، وهذا لم يكن ليحدث لولا وجود ثقة متبادلة وشراكة وطيدة بُنِيَت عبر ثلاثين سنة بين الجانبين السعودي والأمريكي، ولم تتدخل فيه العلاقات السياسية وتقلباتها. هذه الشراكة القوية تمنحنا قيمة تنافسية أعلى مع كبرى شركات العالم، من خلال قدرتنا على التصنيع في المملكة، وتصدير منتجاتنا إلى أسواق منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا. تعد تجربتنا واحدة من قصص نجاحات كثيرة للشركات السعودية مع نظيراتها في العالم، ولا تسمح المساحة هنا لسردها، لكني على ثقة أن التجارة هي أفضل وأنجح طريقة للتواصل بين دول العالم. ولهيئات الاستثمار وصناديقه دور كبير في تنوير العالم عن بعض هذه القصص التي صنعت في المملكة وبأيدي أبنائها. ختاماً، أتمنى أن يتم عقد مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في مدن مختلفة من المملكة في السنوات المقبلة إذا أمكن، لما في ذلك من فوائد عديدة متوقعة. * الرئيس التنفيذي لشركة آل سالم جونسون كنترولز (يورك)