إن إخفاق الثقافة الغربية في رعاية القيم الإنسانية بما فيها قيمة التسامح ومقاومة النزعة العدوانية هو أن تسليم الثقافة الغربية بالقيم الإنسانية ليس تسليم الإيمان القلبي بل تسليم المنطق النفعي وهو العامل الأخطر الذي لا يحقق العدل والحق الإنسانيين وتعميمهما على جميع البشر.. قد يختلط مفهوم الإنسانية في أذهان عدد كبير من الباحثين مع مفهوم الخيرية على أن هناك من يرى في النزعة الخيرية تطويرًا للنزعة الإنسانية. إن أهم فارق بين النزعة الخيرية والإنسانية ينحصر في تحقيق القيم الإنسانية فالمرء يكون خيرًا بقدر تحليه بالفضيلة. واليوم تزداد الشكوى عالميًا من أن المثل العليا لا تتحقق في العالم وأنها تتحطم ولا تصمد أمام قسوة الواقع لأنها لا تتطابق أبدًا مع الواقع. ذلك أن العالم الحديث تشكل على مبادئ الحداثة السياسية وليس على مبادئ القيم الإنسانية فأصبحت المصالح المحركة للسياسة وصارت القيم خارج التفكير السياسي. وبالرغم من استناد السياسيين إلى القيم الأخلاقية في تبرير سلوكهم في العلاقات الدولية المعاصرة إلا أن الواقع يقول بأن العلاقات الدولية المعاصرة تقوم على المصلحة والقوة وليس على القيم الأخلاقية. وإذ يبدو بديهيًا انفصال القيم الأخلاقية عن السياسة تبعًا لثبات الأولى وتغير الثانية وذلك ليس لتناقض أصلي بين الأخلاق والسياسة بقدر ما هو ترتيبات أصلتها النزعة المادية التي حكمت الغرب في علاقاته حتى على النطاق الفردي. فالبنية المادية التي تتحكم في رؤية السياسات والمصالح جعلت من الغرب ينظر للسياسة بعيدًا عن الأخلاق ما يعني ذلك ضمناً أن هوية الصراع الذي تأسست عليه الحضارة المادية الغربية هي التي تتحكم في عالم اليوم. والسؤال هل هنالك أفق للعلاقات الدولية في إطار الأخلاق الإنسانية لا في إطار المصالح وموازين القوى؟ وتكمن الإجابة فيما ينقله كتاب صوت الوسطية [السيرة الفكرية للشيخ صالح الحصين] مقتبسًا عن عالم القانون د. ريونولد نيبر بأن البشر بدلًا من أن يمدوا قواعدهم الأخلاقية لتشمل السياسة الدولية فإنهم ينزعون إلى استخدام السياسة للتنفيس عن نزعاتهم غير الأخلاقية ذلك ما يعني أن هناك إمكانية أخلاقية متصورة لطبيعة العلاقات الدولية مستوحاة من القيم. ثم يورد الكتاب مقتبسًا آخر من جوزيف فرانكل حول ضعف القانون الدولي أمام القانون المحلي بسبب أن هذا الأخير مجمع عليه فالتشابه في الاسم ما بين القانون المحلي والقانون الدولي لا يعني تماثلًا في وظيفة القانونين فالقانون الدولي يعمل في إطار مختلف تمامًا عن إطار القانون المحلي وهو لا يقوم على اتفاق عام كالقانون الوطني ودون سلطة مركزية تضمن تطبيق الجزاء على مخالف قواعده. فالدول تختلف عن الأفراد من حيث إنها لا تعد رعايا للقانون ذلك لأن القانون الدولي ليس قانونًا فوق الدول بسبب افتقاره إلى الخاصية الأساسية للقانون وهي الجزاءات الفاعلة. إذ لا يزال القانون الدولي قانونًا صوريًا يتحرك في إطار مراكز القوى فالمصلحة هي المفتاح السياسي في السياسة. إذ إن هنالك ميزتين تطبعان منهج العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة: الأولى: تدني مستوى القوة الإلزامية للقواعد القانونية التي تحكم العلاقات الدولية. والثانية: ضعف الأساس الأخلاقي. ولذلك فإن القوة هي التي تحكم قانون العلاقات الدولية وبالذات في مسألتي الحق والعدل. يقول الشيخ صالح الحصين: إن معرفة الحق والعدل في القضايا الدولية أو القضايا البينية للدول لا تكفيان بذاتهما ما لم تكن هنالك قوة تقف إلى جوارهما. فقيمتا الحق والعدل في قانون العلاقات الدولية لا يملكان سلطانهما الأخلاقي ما لم تصحبهما قوة وعلى النقيض من ذلك فإنه يمكن للقوة المجردة أن تصبح معيارًا للقبول بحكم الأمر الواقع بعيدًا عما إذا كان من يحوزها محقًا أم غير محق؟ وقد لمس العالم نتائج ذلك في بنية العقل الغربي حين يفرق بين العدل والحق من ناحية والقوة من ناحية ثانية في العلاقات الدولية وذلك بناء على منطق القوة لا منطق العدل والحق لهذا كثيرًا ما تسمى السياسة الدولية بسياسة القوة. فإذا كانت الثقافة الغربية تعبر عن نضج الإنسان وتطور تفكيره وتسليمه بالقيم الإنسانية واستشرافه لصياغة الحياة وفق مقتضاها وفي الوقت نفسه لا تنفي هذه الازدواجية مثل سيادة فكرة الصراع النسبية الأخلاقية المكيافيلية والمعايير المزدوجة للقيم. ذلك أن إخفاق الثقافة الغربية في رعاية القيم الإنسانية بما فيها قيمة التسامح ومقاومة النزعة العدوانية هو أن تسليم الثقافة الغربية بالقيم الإنسانية ليس تسليم الإيمان القلبي بل تسليم المنطق النفعي وهو العامل الأخطر الذي لا يحقق العدل والحق الإنسانيين وتعميمهما على جميع البشر. ذلك أن المادية هي البنية الناظمة لجوهر التفكير الأخلاقي في الغرب والمادية بطبيعتها تصبح عاجزة عن تصور تقديم الخير المجرد بلا مردود نفعي مقابل. وبالرغم من وجود مفكرين كبار في الغرب دافعوا بقوة عن ضرورة تعميم الحق والعدل الإنسانيين لكل البشر إلا أنه تم تهميشهم في ظل عالم تحكمه المادة والقوة.