قبل ثلاثة أعوام ألقيت محاضرة عن الميكروبيوم في مؤتمر دولي عقد في مستشفى قوى الأمن بالرياض، وعلى الرغم من غرابة الموضوع ذلك الوقت كونه من المواضيع الحديثة إلا أنني كنت أتوقع تفاعلاً أكبر مما رأيت، فقلت لعلي لم أوفق في طرح الموضوع بالشكل المناسب حسب الوقت المتاح، ومع مرور الأيام ومناقشة الموضوع مع عدد من المختصين في الطب والتغذية والصحة اكتشفت أن أحد أساب عدم التفاعل المأمول ذلك اليوم كان بسبب عدم توقع كثير من الناس بما فيهم العاملون في المجال الصحي بتأثير تلك الكائنات الدقيقة في حياتنا وعلى صحتنا. اليوم أطرح الموضوع مرة أخرى بطريقة عامة وبعيدة عن النقاشات العلمية الدقيقة آملاً أن أجد التفاعل الذي يستحقه ذلك الموضوع الحيوي. أخي وأختي القراء الكرام، أرجو قراءة الموضوع لنهايته، وأرجو أخذ الموضوع محمل الجد والاطلاع على تفاصيله المتوفرة في الأبحاث العلمية والطبية وهي في تزايد كبير خلال الثلاث سنوات الماضية. دعوني آخذكم في رحلة بداية العلاقة بين الإنسان والكائنات الحية الدقيقة (الميكروبيوم البشرية)، وهي أنواع خاصة تعيش في الإنسان في كل مكان في جسمه وتكثر في الفم والأمعاء والجلد، وتكثر في الأمعاء الغليظة وعددها هائل جداً فعددها عشرة أضعاف عدد خلايا الجسم وكريات الدم بكل أنواعها، وتلك الكائنات تعيش بطريقة تكافلية وتكاملية مع الإنسان تفيده ويفيدها وتضره ويضرها وهذا المجتمع أطلق عليه اسم (مايكروبيوتا) (Microbiota). تزايدت الأبحاث العلمية عن هذا الموضوع وتركزت على التجارب في المعامل والحيوانات وبعضها على الإنسان. ولأن الموضوع واسع دعونا نركّز على الأحياء الى تعيش في أحشائنا أو مايسمى ب ( Gut microbiota)، وهذه البكتيريا نعرفها من دراستنا في كل المراحل التعليمية ولكننا كنا نعتقد أن دورها بسيط في تصنيع بعض الفيتامينات مثل فيتامينات (ك) و(ب12) والعوامل المساعدة، ولكننا اليوم نكتشف أن الموضوع أكبر بكثير مما نعتقد سواء في التأثير على الصحة أو طريقة عمل تلك البكتيريا والذي يعد عملاً عجيباً ومعجزاً، وأهم دور تقوم به هو القضاء على البكتيريا الممرضة التي توجد في الأمعاء بشكل طبيعي، ولهذا الحرب بينهما سجال وتحدث النتائج حسب نتائج تلك الحرب والبيئة التي نوفرها لها فإن كانت البيئة مناسبة لنمو البكتيرا الضارة نمت وقويت والتهمت البكتيريا المفيدة وإن كانت البيئة صحية أو شبه صحية تفوقت البكتيرا النافعة وسلمنا الله من كثير من الأمراض بسبب ذلك. ولكن كيف تتكون تلك البيئات؟ الجنين في بطن أمه يعيش في بيئة معقمة ولكن أثناء ولادته يبدأ ارتباطه بتلك البكتيريا والتي يأخذ بعضها من أمه حتى أن الأطفال الذين يولدون بالعملية القيصيرية تكون نسبة تلك البكتيرامن الأم أقل، ومع نمو ذلك الطفل تتكاثر أنواع البكتيريا عليه وداخله حسب البيئة التي يعيش فيها، فإن كانت بيئة صحية كثرت البكتيريا النافعة أكثر من الضارة وحققت له كثيرا من الفوائد الصحية وقللت الأمراض التي يتعرض إليها، وإن كانت البيئة غير صحية تفوقت الضارة على النافعة فسببت له الأمراض، ونقصد بالبيئة هنا نمط الحياة ونوع التغذية والأدوية والملوثات البيئية واللياقة البدنية. فكلما توفرت حياة صحية للطفل وللبالغ كما كثرت البكتيريا النافعة وساعدت في تحسين صحة الشخص والعكس صحيح، وهذا يفسر جزئياً حدوث أمراض مستعصية لا يعلم سببها. أكثر عدد من تلك البكتيريا يكون في الجزء الأول من الأمعاء الغليضة (القولون الصاعد) ثم تقل النسبة حتى تصل إلى المستقيم وتتغير أنواع تلك البكتيريا وتختلط بين النافعة والضارة والبكتيريا الهوائية وغير الهوائية. * ما دور الميكروبيوم؟ 1- تساعد تلك الكائنات المجهرية في امتصاص العناصر الغذائية بالذات المعادن والفيتامينات وتؤثر على أيض بقية العناصر الغذائية، ويعتمد ذلك على نوع البكتيريا النافع والضار. 2- المساعدة في هضم بعض العناصر الغذائية مثل الكبروهيدرات حيث تنمو تلك البكتيريا على الألياف الغذائية وغير الغذائية بشكل كبير التي لا يمتصها الجسم وتعمل على تخمير الكربوهيدرات وتنتج عناصر غذائية مختلفة ومنها الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة وهذا يساعد على تخزين الدهون. 3- تتداخل مع الجهاز المناعي ولهذا تأثيرها عليه كبير سلباً أو إيجاباً حسب نوع المجتمع البكتيري المتكون، وأيضاً تأثيرات على الجهاز الليمفاوي ومنها صحة العقد الليمفاوية، كما أظهرت الأبحاث الحديثة تأثير الميكروبيوتا على تكوين الخلايا المناعية T-Cells وإنتاج الأجسام الناعية IgA. 4- تؤثر على صحة القولون والأمراض التي تحدث فيه أو تبدأ منه، وهذا يشمل التأثير على سمك الطبقة المخاطية التي تحمي الأمعاء، و نفاذية الخلايا فيه لدخول وخروج العناصر الغذائية ومكونات الدم، وتبادل العناصر الغذائية بين الدم وخملات الأمعاء، وقدرة أنسجة الأمعاء على تجديد الخلايا وصيانة نفسها. 5- التأثير على فعالية وظائف الأمعاء وصحة أنسجته وهذا بدوره يؤثّر كثيراً على بقية الأعضاء والانسجة والخلايا في الجسم كله وقدرته ومناعته.. 6- التأثير على الجهاز العصبي بزيادة وخفض السيال العصبي وسرعة استجابة الجهاز العصبي للمؤثرات وهذا بدوره يؤثّر على الانفعالات النفسية ولهذا وجد أنها تؤثّر في تقليل أو زيادة المشاعر النفسية السلبية أو الإيجابية وحتى حدوث القلق والتوتر والاكتئاب. 7- التأثير على تنظيم تخليق العظام والأسنان والعوامل المؤثّرة عليها وبالتالي معالجة والوقاية من هشاشة وترقق العظام عند الكبار والكساح عند الأطفال. 8- من أكثر الدراسات التي نشرت خلال الفترة القريبة الماضية علاقة الميكروبيوم مع أمراض القلب والشرايين والجلطات وقد نشرت تلك الأبحاث في مجلة (Nature) عام 2011 م. وعلاقتها بالكوليسترول والدهون الثلاثية (Circ Res 2015) وهناك قائمة طويلة من الأمراض التي تم اكتشاف علاقتها بالميكروبيوم، وتجري الأبحاث وتعقد المؤتمرات الآن لمناقشة طبيعة تلك العلاقة وآلية عملها وكيفية الاستفادة منها في الوقاية والعلاج، وفي المقابل هناك دراسات في المختبرات وعلى حيوانات التجارب تعطي نتائج مذهلة ولكنها مازالت تحت البحث وتحتاج وقتاً لحين إثباتها، ومنها دور المضادات الحيوية التي يتناولها الأطفال لأي سبب كان في أحداث الأمراض لاحقاً ومنها السمنة، وعلاقة الميكروبيوم بصحة الكبار ومنها الخرف المبكر، وأيضاً مع الحمل والإرضاع، وزيادة ونقص الوزن، بل ومع التحكم في العادات الغذائية. ومن الدراسات العجيبة وجود علاقة بينها وبين صحة المخ، والمشاعر من خلال التأثير عغلى هرمون السيروتينين ومن ضمن تلك الأبحاث مانشر في مجلات (Behav. Brain Res. 2015 – Cell 2015 – edv. Exp. Med.biol 2014) وغيرها. حقيقة كالخيال عندما سمعت تلك المعلومة لأول مرة لم أصدق ماسمعت ولم أنقلها لأحد خوفاً من اتهامي بالمبالغة، ومع نقاش العلماء والجمعيات الطبية المتخصصة مثل ASPEN حيث نشرت نتائج بحث في مجلة JPEN 2013، وبعد الاطلاع على نتائج الأبحاث مثل ما نشر في مجلة (Frontiers in Physiology 2011) اقتنعت بتلك الحقيقة العلمية التي كانت يوماً ما كالخيال. خلاصة المعلومة، أن البكتيريا في أمعائنا تدمن أكلات معينة لأنها تعودت عليها سواء أكلات صحية أو غير صحية، وأن تلك البكتيريا تحب السكر والدهون، فتعجبها الوجبات السريعة كثيراً ومع استمرار الشخص على تناولها تدمنها تلك البكتيريا، هذا فيه نوع من الغرابة ولكن الغرابة أكبر من هذا، حيث أن تلك البكتيريا لديها تواصل مباشر مع المخ (Gut-Brain Axis) وتقوم بعدة عملات تتضمن تأثير بعض الهرمونات مثل الكورتيزول بحيث تجبرك على تناول تلك الأغذية التي تعودت عليها فتشعر بشهية غير عادية لتلك الوجبات فيجتمع عليك شهيتك العادية وشهية البكتيريا الضارة داخل أمعائك ولهذا قد تهزم الشهيتان فتركض لشراء وتناول تلك الأغذية وتتناولها بشراهة، وذلك الجسر الذي يربط المخ بالأحشاء له تأثير متبادل بينهما وبتأثير تلك البكتيريا. يعكف العلماء حالياً على دراسة تلك العلاقة ومحاولة فهمها، لأنه لو تم التعرف على تفاصيلها وكيف تستطيع تلك الكائنات الدقيقة أن تتحكم ببعض خياراتنا ومشاعرنا لأمكن فصل تلك المركبات وحقنها في الدم أو إيجاد وسيلة شبيهة للتحكم في المشاعر غير الجيدة أو مساعدة الناس في كبح شهيتهم لأشياء معينة. البكتيريا والمرض العضال هناك نوع من التهاب يصيب الأمعاء مع ألم شديد يترافق مع إسهال شديد مصحوب بالدم وارتفاع في الحرارة وفقد للسوائل حتى الجفاف ولا يستجيب للعلاج ولا للمضادات الحيوية، وظل هذا المرض مشكلة لكل من يصيبه اسم هذا المرض (C.difficile colitis)، ثم وجدوا أن الميكروبيوم علاج لتلك الحالة المستعصية، واستبشر الناس بها، ولكن البكتيريا الأقوى في علاج تلك الحالات تنمو أساساً وتتكاثر في أمعاء الإنسان، فكان الخيار الأفضل نقل تلك البكتيريا النافعة من قولون الإنسان السليم الى قولون الانسان المريض و قد لوحظ التحسن خلال 48-96 ساعة. وقد طورت بعض الشركات تقنيات لحفظ تلك البكتيريا وإعادة حقنها في الشخص المريض أو تعبئتها في كبسولات وتناولها عند الحاجة. *كيف نحصل على الميكربيوم النافعة ؟ أفضل مصدر متوفر وسهل هو تناول الزبادي واللبن، حيث تكثر تلك البكتيريا النافعة فيهما، ولهذا ننصح كل من يتناول مضاد حيوي يصفه الطبيب لأي سبب كان أن يكثر من تناول الزبادي حيث يعوض البكتيريا المقتولة بسبب المضاد الحيوي الذي لا يفرق بين البكتيريا النافعة والضارة وإنما يقضي على الجميع. بعض المخللات تحوي بكتيريا نافعة ولكن ذلك يعتمد على طريقة تصنيعها وحفظها، ولهذا لا ننصح بتناول المخللات الشعبية أو التي لا نعرف مصدرها ولا نضمن طريقة تصنيعها وحفظها لكيلا تعود المنفعة المأمولة الى ضرر صحي علينا. تناول الزبادي واللبن هو بداية إضافة البكتيريا النافعة ولكن ليس الضمان لتكاثرها، فتلك البكتيريا كائنات حية تحتاج لتوفير بيئة مناسبة لتنمو وتتكاثر مثلها مثل بقية الكائنات الحية، ولهذا تحتاج لتوفير ألياف غذائية تلك الموجودة في الخضروات والفواكه والحبوب الكاملة، وأيضاً تحتاج أن نقلل فرص تكاثر البكتيرا الضارة فلا بد أن نتجنب الزيوت والسكر والمعلبات والأغذية الضارة ونقلل من كمية الأغذية التي تسبب تخمر النشويات بسبب زيادة البكتيريا الضارة، ونهتم بصحتنا العامة ونمط حياتنا مثل تنظيم الأكل ومواعيده وتنظيم النوم ومزالة بعض الأنشطة البدينة المناسبة، كل ذلك يساعد على توفير بيئة صحية لتكاثر البكتيريا النافعة على حساب البكتيريا الضارة، وبهذا نهيئ لأجسامنا فرصة الاستشفاء الذاتي أي نجعل الجسم يعالج نفسه ويرفع مناعته ويقاوم الأمراض بالطريقة المناسبة له دون الحاجة لتناول الكثير من الأدوية والمضادات الحيوية وغيرها. تكثر في الفم والأمعاء والجلد وتكثر في الأمعاء الغليظة أنواع خاصة تعيش في الإنسان في كل مكان في جسمه