لا يريدُ أحدنا أن يكون منعزلاً عن واقعه، فاشلاً في التعامل مع مجتمعه، بعيداً عن التفاعل الاجتماعي مع أبناء الجيل المعاصر، وفي الوقت ذاته يشتاق المرء لماضيه بما يحتويه من ذكريات سعيدة كانت أو حزينة، ولا شك أنَّ في القلب ذكريات ومناسبات تتلاشى وتضعف مع تقدم العمر ومرور الزمن، وهذه الذكريات لا بدّ من إحيائها في قلوبنا بذكرها والعيش معها وبها من حينٍ لآخر، وأعظمها ما كانت مع والديك، وأبهاها ما كانت مع إخوانك، وألطفها ما كانت في طفولتك، وأحسنها ما كانت مع أصحابك إلاّ أن القلب يزداد حسرة حينما تقارن بين جيلك وبين أبناء عصرنا، فتتذكر أنّك من جيلٍ كانت أفراد العائلة كلها تجتمع على الطعام الواحد في الأوقات الثلاثة، ويأتي الأهل والأقارب إلى بيتك بصفة مستمرة للسؤال عن أحوالكم، وكُنتَ في خدمة معلمك وكبير السن كخدمتك لوالديك، وتمثل المذاكرة والعلم شيئاً كبيراً في حياتك، وتتبادل الحديث مع أقاربك وأصحابك شفوياً ووجهاً لوجه وليس إلكترونياً، وتزدادُ حسرتك ويعظمُ ألمك حينما تكون ملماً بشيء من المعرفة، أو منشغلاً بقراءة التاريخ، أو ساعياً للوقوف على تراجم العلماء من خلال القراءة في كتب التراجم والطبقات فتشعر وقتها بأسوأ شعور وإحساس، وهو أنك تعيش مع جيلٍ قديمٍ تقرأ عنهم من خلال هذه الكتب وتعيش واقعاً مغايراً مع كمٍ هائل من الاختلاف والمتغيرات مِمن حولك، فتحاول قدر إمكانك أن تتصالح مع بيئتك بما عندك من رسم في ذهنك عن الزمان الماضي؛ فيحصل التنازع الروحي؛ إذ لا تستطيع الإقدام بقوة على الواقع المعاصر بكل تغيراته، ولا تسمح لنفسك بالتخلي عن الزمان الماضي، فتتولد العزلةُ والانطوائيةُ والاكتفاءُ بما لا بدّ منه معهم، وينبغي لمن يحن ويشتاق للماضي ألا يبالغ مع نفسه في الحنين له ولأيامه؛ لأنه يتولد عنده النقد الدائم والمستمر لواقعه المعاصر، وَيَبني بذلك في نَفْسه حاجزاً نفسياً مع التعايش والتفاعل المجتمعي، فيختار لنفسه حتماً الانطواء المستمر الذي يعقبه آفات عظيمة، وإنما يحاول امتلاك مهارات التواصل والاتصال مع الواقع المتغير والإلمام بمتطلبات هذا الجيل، وهي مهاراتٌ ضروريةٌ للانسجام والتفاعل مع مجتمعه وواقعه، فأغلب أبناء هذا الجيل كما هو مُشاهد لا يتفاعلون ولا يتقبلون مِمن يشعرون أنه لا يحيا حياتهم أو يخاطبهم بلغتهم، وبالتالي فإنك في حاجة ماسة إلى تقبلك منهم للتعايش والتفاعل والتقدم بهم للمعالي، ولن يكون إلا بإشعارهم أنك تحيا حياتهم، ولستَ قادماً عليهم من عالم آخر.