لم يشهد العهد الأموي ظهور مذهب فقهي مسمى، بل كانت مرحلة مخاض، ظهرت على أثرها مدرستا الرأي والحديث، ومن الأولى كان المذهب الحنفي، ومن الثانية كان المذهب المالكي. غير أن الصراعات السياسية، بسبب الخلاف على الإمامة، حجبت مذاهب اخرى. أما العهد العباسي فقد شهد ظهور المذاهب الفقهية، التي يمكنها رعاية الشؤون القضائية، وإن كانت ثمة صعوبة واجهت العباسيين في التعامل المباشر مع إمامي المذهبين الموجودين آنذاك، أبي حنيفة ومالك بن أنس، لكنهم لم يجدوا حرجاً في التعامل مع الجيل الثاني من فقهاء المذهبين، وخصوصاً فقهاء المذهب الحنفي. تبنى العباسيون، المهدي وما بعده، المذهب الحنفي، بعد قتل مؤسسه 150 ه بكأس مسمومة، بتهمة التآمر مع ابراهيم أخ محمد النفس الزكية، يُضاف اليها رفضه لمنصب القضاء. تم هذا التبني عبر منصب القضاء، فكان "أول من خوطب بقاضي قضاة" أبي يعقوب بن ابراهيم ت 182 ه، المعروف بصاحب ابي حنيفة، وبكتابه "الخراج"، الذي ألفه بطلب من هارون الرشيد ت 193 ه، ليصبح مرجعاً في تنظيم المعاملات الشرعية والمالية، وفقاً لأحكام المذهب الحنفي. فحسب قوله في قسمة الغنائم "كان الفقيه المقدم أبو حنيفة". كذلك استند الى مرويات الفقيهين: حماد بن أبي سليمان 120 ه، وابراهيم النخعي 96 ه، التي شكلت خلفية فكرية لمدرسة الرأي في العراق، وحماد كان شيخاً لأبي حنيفة مدة 18 عاماً. قال التنوخي ت 384 ه في اتصال أبي يوسف بالرشيد، من دون أن يذكر صلته بمحمد المهدي وموسى الهادي: "إنه قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة، فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه، انه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له داراً بالقرب منه، واتصل به. فدخل القائد يوماً على الرشيد، فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمّه، فقال: شيء من أمر الدين قد حزّ بي، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه، فجاءه بأبي يوسف". قال أبو يوسف: "فلما دخلت الى ممر بين الدور، رأيت فتى حسناً، اثر المُلك عليه، وهو في حجرة في الممر محبوس، فأومأ اليّ بإصبعه مستغيثاً، فلم أفهم عنه إرادته". بعد جلوسه، سأله الرشيد عن اسمه، وعن رأيه في إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحدّه؟ أجاب القاضي، وكأنه عرف ورطة الخليفة! "لا يجب ذلك". حينها سجد الرشيد شاكراً، فسأله كيف يكون ذلك؟ أجاب بالآتي: "لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ادرأوا الحدود بالشبهات، وهذه شبهة، يسقط الحد معها". فقال الرشيد. وأي شبهة مع المعاينة؟ قال أبو يوسف: "ليست توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم... لأن الحد حق الله تعالى، والإمام مأمور بإقامة الحد، فكأنه صار حقاً له، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، ولا تناوله بيده، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحد بالاقرار والبينة، ولم يجمعوا على إىفائه بالعلم". أمر الرشيد للقاضيل بمال، وراتب شهري، وأن يبقى بدار الخلافة. كذلك وصلته هدية الفتى وهدية والدته، وظل محتفى به حتى قُلد منصب قضاء القضاة، الذي عبره تقلد الفقهاء الحنفيون قضاء أكثر البلدان. كانت هذه واحدة من المحاولات الفقهية المشروعة، تضاف الى خلفية المذهب الحنفي في مراعاة المواقف الحرجة، مثل هذا الموقف. فحسب الرواية أن أبا يوسف لم يكن يعرف مسبقاً ان الزاني كان ابن الرشيد، حتى تعتبر فتواه مجاملة له. غير ان روايات اخرى أشارت الى اتصال ابي يوسف بالعباسيين قبل الرشيد، إذ قال المسعودي ت 346 ه: "كان نقش خاتم المهدي الله ربي، وعلى قضائه أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة النعمان بن ثابت". وقال أيضاً: "كانت أم جعفر زوجة المنصور، وجعفر ابنهما الأكبر، ووالد زبيدة زوجة الرشيد وأم الأمين كتبت مسألة الى ابي يوسف تستفتيه فيها، فأفتاها بما وافق مرادها، بحسب ما أوجبته الشريعة عنده، وأداه اجتهاده اليه، فبعثت اليه بحُقّ وعاء فضة فيه حُقان من فضة، وفي كل حُقّ لون من الطيب، وجام كأس من ذهب فيه دراهم، وجام فضة فيه دنانير، وغلمان وتخوت من ثياب، وحمار وبغل". كما ذكر الكوثري أن أبا يوسف قلد القضاء في السنة 166 ه، أي قبل وفاة المهدي ت 169 ه بثلاث سنوات. قال التنوخي، الحنفي المعتزلي، ما يفيد تأكيد استمرار تبوؤ الحنفيين مركز القضاء في الدولة العباسية، مع قضاة من مذاهب أخرى، بعد عصرها الأول: "كان القضاة على مذهب أبي حنيفة، وغيره من الفقهاء". فالنظر في عدد القضاة الحنفيين، والمدارس الخاصة بتدريس الفقه، حتى سقوط الخلافة السنة 656 ه، يعطي صورة واضحة عن انتشار المذهب الحنفي بالعراق والبلاد الأخرى، وهذه أسماء عدد من هؤلاء جمعت من كتاب التنوخي "نشوار المحاضرة" ثمانية مجلدات وفي فترات مختلفة. وهم: نوح بن دراج ت 182 ه، أسد بن عمرو ت 190 ه: قضاء شرق بغداد وواسط، والكوفة، علي بن طبيان ت 192 ه: قضاء بغداد مع منصب قاضي قضاة الحسين بن الحسن العوفي ت 201 ه وبشر بن الوليد ت 238 ه، والحسن بن علي الجعد ت 243 ه: قضاء بغداد، هلال بن يحيى بن سالم، المعروف بهلال الرأي 245 ه، اسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عبدالرحمن بن اسحاق بن ابراهيم، عبدالله بن محمد الخنلجي، عبيد الله بن أحمد بن غالب، أبو خازم عبدالحميد بن عبدالعزيز ت 283 ه: قضاء شرق بغداد، أبو الحسن علي بن أبي طالب البهلول ت 358 ه: قضاء الأنبار وهيت وخراسان، مع منصب قاضي قضاة، الحسين بن محمد بن اسماعيل الكوفي ت 395 ه، محمد بن عبدالله المؤذن: قضاء بغداد أيام المتوكل، صاعد بن محمد ت 432 ه: قضاء نيسابور، أبو علي المُحسن التنوخي ت 384 ه: قضاء الكوفة وبابل وقصر ابن هبيرة. لا ندري كيف تبوأ هذا العدد من الفقهاء الحنفيين القضاء، على رغم وصية إمامهم الناهية عن قبوله، وإن اضطروا اليه، فلا يقبلوه الا بشروط صعبة. جاء في الوصية: "أنتم مسار قلبي، وجلاء حزني، قد أسرجت لكم الفقه، وألجمته، فإذا شئتم فاركبوه، وقد تركت لكم الناس يطأون اعقابكم، ويلتمسون ألفاظكم، وذللت لكم الرقاب، وما منكم أحد إلا وهو يصلح للقضاء، وفيكم عشرة يصلحون أن يكونوا مودي معناها في القاموس الأسد، ولعل أبا حنيفة قصد هذا المعنى القضاة فسألتكم بالله، وبقدر ما وهب الله لكم جلالة العلم، لما صنتموه عن ذل الاستيمار الموافقة على كل أمر، فإن بلى رجل منكم بالدخول في القضاء فعلم من نفسه خربة، سترها الله تعالى عن العباد، لم يجز قضاؤه وطاب له رزقه، فإن دفعته ضرورة الى الدخول فيه، فلا يجعلن بينه وبين الناس حجاباً، وليصلّ الصلوات الخمس في الجامع، ولينادِ عند كل صلاة من له حاجة، فإذا صلى صلاة العشاء الآخرة نادى ثلاثة أصوات من له حاجة، ثم دخل الى منزله، فإن مرض مرضاً لا يستطيع الجلوس معه اسقط من رزقه بقدر مرضه". خلا ذلك دل على شيوع المذهب الحنفي، انتساب شخصيات مهمة اليه، منها الطبيب والفيلسوف ابن سينا ت 428 ه، والمتكلم المعتزلي البغدادي عبدالله بن أحمد البلخي ت 319 ه، والفقيه العالم محمد بن الحسن فرقد الشيباني ت 189 ه، واللغوي والمفسر محمود بن عمر الزمخشري ت 515 ه، صاحب كتاب "شقائق النعمان في حدائق النعمان". كما منع رسوخ المذهب شخصيات خطيرة في الدولة العباسية من محاولة تحجيمه أو منعه رسمياً، مثل الفضل بن سهل، ذي الرئاستين. لكنه استشار قبل تقديم الطلب الى المأمون فقيل له: "ان الأمر لا ينفذ، ولا ينتقض جميع الملك عليكم، ومن ذكر هذا فهو ناقص العقل"، فقال الفضل: "هذا إن سمعه أمير المؤمنين لا يرضى به، ويعاقب من ذكر له هذا". الى جانب القضاة الحنفيين، وما يحصل بوجودهم من مراعاة لمذهبهم، توسعت مدارس الفقه الحنفي، حتى دخل المذهب الشافعي منافساً رسمياً، برعاية السلاجقة، والميل الى اعتماد المذهب الواحد. أشهر المدارس الخاصة بالمذهب الحنفي: مدرسة أبي حنيفة، المدرسة المغيثية، المدرسة الموفقية، مدرسة زيرك، مدرسة البهائية، ومدرسة تركان خاتون. ومن المدارس المغلقة للمذهب الحنفي في مدينة واسط: مدرسة الغزنوي، شيدها محمود الغزنوي ت 563 ه، في محلة الوراقين. وأشهر المدارس التي استوعبت المذاهب الأربعة المدرسة المستنصرية، التي اكتمل بناؤها العام 631 ه. وصف المؤرخ ابن الفوطي ت 723 ه مهرجان افتتاحها بتفاصيل وافية. وبحسب الأهمية عين نائب الوزارة مدرسي المذاهب، مدرسان للحنفية والشافعية، ونائبان للمالكية والحنبلية وهم: "محيي الدين أبو عبدالله محمد بن يحيى بن فضلان الشافعي، ورشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني الحنفي، وخلع على كل واحد منهما جبة سوداء، وطرحة كحلية، وأمطي بغلة بمركب جميل وعدة كاملة. وأما النائبان فجمال الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن يوسف بن الجوزي الحنبلي حفيد ابن الجوزي، نيابة عن والده، لأنه كان مسافراً في بعض مهام الديوان، والآخر ابو الحسن علي المغربي المالكي، وخلع على كل واحد منهما قميص مصمت وعمامة قصب، ثم خلع على جميع المعيدين، وهم لكل مذهب اربع خلع". اقتسمت المذاهب الأربعة أركان المدرسة الأربعة و"ذكر المدرسان، المقدم ذكرهما، الدروس كل واحد منهما على سدته، والنائبان كل واحد منهما تحت السدة، ثم قسمت الأرباع، فسلم ربع القبلة الأيمن الى الشافعية، والربع الثاني يسرة القبلة للحنفية، والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة، والربع الرابع يسرة الداخل للمالكية". وبعد 18 عاماً من افتتاح المستنصرية بالرصافة، افتتحت بالكرخ جارية المستعصم ت 656 ه باب بشير، وأم ولده، مدرسة مماثلة، سميت بالبشيرية، وجعلتها وقفاً على المذاهب الأربعة أيضاً. كذلك افتتحت زوجة حاكم بغداد للمغول، علاء الدين صاحب الديوان، المدرسة العصمتية العام 671 ه، وجمعت فيها المذاهب الأربعة. ظل المذهب الحنفي، المذهب الرسمي في الدولة العثمانية. لكن ما شاع حول علاقة تبني العثمانيين للمذهب المذكور ورواية نفي مؤسسه لحديث ولاية قريش، لم يكن دقيقاً. فحسب كتب المناقب الحنفية، أن أبا حنيفة والحنفيين من بعده اعترفوا بحديث الولاية السياسية، غير أنهم لم يحصروا الولاية الفقهية فيها، مثلما طالب بذلك أصحاب الإمام الشافعي، لأن الأخير كان قريشياً. أما سبب تبني العثمانيين لهذا المذهب من دون غيره، فله علاقة بأمور عدة، منها: أن للمذهب الحنفي حضوراً في المناطق التي قدم منها العثمانيون، وأنه كان المذهب المعتمد من قبل العباسيين، وكان المذهب الوحيد حتى بعد خلافة المتوكل، وانقلابه ضد المذاهب الأخرى، واعتماده على أهل الحديث، اضافة الى ملاءمة أحكام الحنفية لدولة شاسعة تضم الأديان والمذاهب المختلفة. كانت المشيخة الاسلامية في اسطنبول هي الدائرة الفقهية التي منها تصدر أوامر تعيينات الفقهاء والقضاة، وتتولى مهمات الإشراف على المحاكم الشرعية في مختلف الولايات. تشدد العثمانيون في اعتماد المذهب الواحد، وكان قضاة المحاكم في المناطق الشيعية أو الشافعية من الحنفيين، لهذا كان القضاء الرسمي شبه معطل في تلك المناطق، فالناس، من غير الحنفيين، يرجعون في حل قضاياهم الشرعية الى رؤساء العشائر أو الفقهاء من غير القضاة. ومن مظاهر ذلك، كان القضاة الرسميون "يمكثون في مناصبهم من دون أن ينظروا في أية قضية، إلا في القليل النادر من الأحوال، مما كان يجبر عليه البعض من الناس، وقد نقل أحد قضاة مدينة كربلاء أنه مكث في منصبه تسعة أعوام لم ير فيها ولا دعوة واحدة، ذلك بسبب قيام الدولة بفرض مذهبها الرسمي، على بقية أتباع المذاهب الأخرى". فعلى سبيل المثال، كان السيد الآلوسي الحنفي المذهب قاضياً في كربلاء الشيعية العام 1890 م. أما ابو الثناء محمود الآلوسي، الشافعي المذهب، فكان مفتياً لبغداد أيام نجيب باشا، لكنه ملزم أن يفتي بأحكام المذهب الحنفي. فالفقه الشافعي يجيز ذلك، لكن بشروط، يلخصها الماوردي بقوله: "يجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي، رحمه الله، أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة، لأن القاضي يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى الى مذهبه، اذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه الى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده اليها، فإذا أداه اجتهاده الى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به". ولعل المفتي الآلوسي حاول تطبيق أحكام مذهبه الشافعي في أحد المتهمين بالردة، عند محاكمته العام 1845 م في بغداد، من قبل فريق برئاسته وآخر برئاسة الشيخ حسن كاشف الغطاء، ولما أصر المفتي على موقفه بقتل المتهم، طلب الشيخ كاشف الغطاء كتاب أبي حنيفة، فوجد فيه ما يخالف رأي الشيخ، الذي قال إني أحكم وفقاً للمذهب الحنفي، عندها قال كاشف الغطاء لنجيب باشا، الذي جرت المحاكمة في حضوره: "أفندم تُنصِّبون للفتوى من لا يدري". * كاتب عراقي.